من يقسو على نفسه بالنقد من المسؤولين أسوة بالملك؟!
"أقسو على نفسي بالنقد.. ولنحذر نداءات الجاهلية".. كلمات اهتز لها الجميع احتراماَ للملك عبد الله في خطابه الذي ألقاه في الحفل السنوي لافتتاح أعمال السنة الرابعة من الدورة الرابعة لمجلس الشورى الأسبوع الماضي. ولقد سمعت الإطراء والإعجاب به من مجموعة من السفراء الأجانب الذين حضروا الخطاب. خطاب تاريخي لم يسمع شعب من قبل. خطاب ملك يود أن يبحر بالسفينة ولكن يبدو أنها عالقة بين شعاب البحر. لقد جال العالم وفتح قلوب وآفاق الدول لنا، وتحرك عربياَ لحل المنازعات ليجعل اسمنا عالياَ. ولكن من منا يمارس ذلك النقد لنفسه؟ وهل ستحرك أو تهز تلك الكلمات قلوب بعض المسؤولين والمواطنين الذين لا ينتقدون أنفسهم بل يتهاونون في خدمة الوطن ويخضعون لنداءات الجاهلية؟ ويشجعون على أن يكون بيننا ظالم ومظلوم، وحارم ومحروم، وقوي ومستضعف، بينما نحن كما أوضح الملك إخوة متحابون في وطن واحد يتمسك بعرى عقيدته، ويفتديها بحياته، ويتمسك بوحدة الوطن، لا يسمع نداءات الجاهلية، سواء لبست ثياب التطرف المذهبي أو الإقليمي أو القبلي". كلمات لم تأت من فراغ بل هي تمثيل لواقعنا. لقد أشهد الملك ربه بأنه ما تردد يوما في توجيه النقد الصادق لنفسه إلى حد القسوة المرهقة، كل ذلك خشية أمانة يحملها ليقول "إنها هي قدري وهي مسؤوليتي أمام الله - جل جلاله - ولكن رحمته تعالى واسعة فمنها أستمد العزم على رؤية نفسي وأعماقها، تلك النفس القادرة على توجيه النقد العنيف الهادف، قادرة - بإذن الله - أن تجعل من ذلك قوة تسقط باطلا وتعلي حقا".
وقد شدد الملك في خطابه على أن الحرية المسؤولة هي حق لكل النفوس الطاهرة المحبة لمكتسبات هذا الوطن الروحية والمادية، ليبقى شامخا عزيزا متفوقا في زمن لا مكان فيه للضعفاء والمترددين.
كلمات نسمعها لأول مرة في تاريخ القيادة السعودية. وكلمات تشهد لقائلها بأن تمثل قولا وفعلا. فقائدنا بسعي وبإخلاص لتحقيق النمو ورفع مستوى معيشة المواطن وتحسين نوعية حياته، فقد تم تخصيص 165 مليار ريال في ميزانية العام الحالي للإنفاق على المشاريع. لقد عرض الملك برنامجه الإصلاحي، مشددا على أنه يتلمس احتياجات المواطنين ويتصدى للمشكلات الطارئة في المجتمع السعودي، مستشهدا بإنشاء الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، الهيئة العامة للإسكان، جمعية حماية المستهلك، وبرنامج تطوير التعليم، والهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، إلى جانب إنشاء وحدة رئيسة في وزارة التجارة والصناعة بمستوى وكالة تعنى بشؤون المستهلك.
كلمات نقابلها بالإسراف الشديد والشكوى من غلاء الأسعار وخاصة إعانة الأرز بينما نحن نرمي الأطنان منه يومياَ في براميل النفايات بعد ولائم الأفراح ومناسبات البذخ. إن ما نصرفه أكثر من ألف ريال للطن. ونشتكي من ربط الدولار بالريال الذي أثره على اقتصادنا لا يمثل الخسارة الكبيرة التي نمنى بها بعدم وجود روح العمل والإنتاجية لدينا. فلو عملنا بجد كما يعمل الألمان واليابانيون لكانت ثروتنا أكبر من ثروة البترول أو فك الارتباط. ونعالج الفقر بينما الفقراء يسرفون في مناسبات الزواج لأبنائهم.
ملكنا يدعو العاطلين إلى أن يعملوا بجدية ووطنية صادقة إذا أردنا أن نعيش في مجتمع ودولة واحدة. وإنهم ليسوا أحراراً في ذلك بل يجب أن يخجلوا فهذا حق لنا وواجب وطني تفرضه أخلاقيات الدين والمجتمع لنتعايش سوياَ. وتفرضه تعاليمنا الدينية، التي يحثنا عليها ديننا في أكثر من موقع ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" و"وقل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". فأيننا من ديننا؟ ولماذا دائما نترك القواعد والأركان المهمة من الدين ونتطرف في القشور والجدل حول زواج المسيار والتورق والتمرق وكأننا انتهينا وأكملنا أهم أركان الإسلام وأخلاقياته؟ فهل انتهينا من الحسد والنميمة؟ "ومن شر حاسد إذا حسد" التي قد تكون أهم مما تنهى عنه وزارة الشؤون الإسلامية والهيئات؟ ولماذا غاب عن خطب صلاة الجمعة الحث على العمل الذي هو أساس التنافس الاقتصادي الذي يضمن معيشتنا نحن وأبناءنا في المستقبل. بينما نحن نعتقد أن العمل ترف واختيار لنا. وما زلنا نعتقد أننا من أفضل الناس بينما نحن مخدوعون. وإذا كان الله قد ميزنا بالإسلام فإنني أعتقد أننا ابتعدنا عنه قليلاَ، ضيعنا جزءا كبيرا من ذلك وأصبحت هناك دول أخرى قد تكون أكثر من تمسكاَ به.
تتفاخر الدول فيما بينها في العمل والإنتاجية وتحاول أن تخرج للعالم أمثلة خارقة للعادة عن مدى تضحية وجدية مواطنيها للعمل على الرفع من سمعة دولها. وقد لا يختلف اثنان فيما قدمه الشعب الياباني والأمريكي والألماني من صورة تعكس صورتها الإبداعية لجدية مواطنيها للعمل والابتكار حتى أصبحنا نعتمد ونعيش عالة عليهم. وتحاول دائماَ تلك الدول أن تستثمر في تقديم صورة عن مدى جديتهم في تخصصات مختلفة وليس فقط كرة القدم. وتنظر تلك المجتمعات إلى أفرادها غير العاملين على أنهم مصدر قلق لها وان العمل فرض وواجب وطني وحق للوطن.
لقد مسحت معظم دول أوروبا عن الأرض بعد الحربين العالميتين (1940م). ولكن الشعب الألماني وبميزانية عاجزة استطاع وحده خلال أقل من 70 عاماَ أن يصل إلى ما هو عليه الآن من قوة صناعية هي الأولى في أوروبا والرابعة عالمياَ. فهل نحتاج إلى حرب أو سنوات فقر لنصحو ويصبح لدينا الوعي بأن العمل فرض علينا؟ ومتى سيصبح لدينا قوى عاملة نستطيع أن نعتمد عليها لنعيش.
يكثر اللوم على الدولة ولكن مشكلاتنا وتعطيل مصالحنا تأتي منا كمواطنين في عدم احترامنا لبعضنا. فالمسؤولون في الدولة هم أصلاً مجموعة من المواطنين. فنحن نراجع موظفين ومسؤولين هم مواطنون مثلنا ولكنهم لا يعبروننا بل يعطلوننا ( ما أدري، راجعنا بكرة، راح بجيب أولاده، طلع يشيش....). غير عابئين بتوجيهات ولاة الأمر بعدم تأخير مصالح واحتياجات المواطنين، التي لن تنجز على أيدي من هم متسيبون أو غير أكفاء لهذا العمل. فكيف يمكننا أن نتقدم وننافس في الوقت الذي نجد فيه أن معظم الوظائف وخاصة القيادية لا يزال ينام عليها ومنذ أعوام بعض المسؤولين الذين يورثونها لأبنائهم أو أقاربهم غير الأكفاء والذين ليس لديهم الوطنية والإخلاص الكافي لترك ذلك المنصب لمن هم أجدر وأكفأ منهم. حتى أصبحوا يقتلون بعض الكفاءات الشابة ويمنعونها من الظهور. فالموظف مهما تعلم أو حصل على شهادات أو مؤهلات فإنها لا تهم لأن مصيره وقدره طوال حياته تحت رحمة مزاج ومدى استحسان هؤلاء المسؤولين له، فهم الوحيدون الذين يقررون مصيره ومستقبل عائلته وحياته. وهم أقدر على تأهيلك من أي جامعة عالمية.
إنني أرى أنه لا بد من إيجاد حلول لتلك المشكلة، والحل يقتضي بعض القسوة على النفس بالنقد والصراحة والخلاص من بعض المسؤولين لوضع مصلحة الوطن والمواطنين فوق المصلحة الخاصة. فهؤلاء الأقارب أو الأصدقاء يمكن أن يكافئهم بالمنح أو المساعدات المالية ولكن ليس بأن يوضعوا على رؤوس العباد ورقابهم وتقرير مصيرهم فقط لأن تأهيلهم هو كونهم أقارب أو أصدقاء.
كلمات مغزاها أننا يجب علينا أن نعيد حساباتنا لنتأقلم مع الوضع الجديد وعصر التنافس والتحديات العالمية بين الدول. وخاصة الصغيرة منها التي تسبح في خضم فرد العضلات بين الدول الكبرى وتهديدها أو سيطرتها على اقتصاداتها. وهو ما دابت عليه قيادتنا الحكيمة باستيحاء التخطيط المتبع في العالم المتقدم لوضع سياسات التخطيط الوطني والذي بدأ منذ سنوات بوضع الخطط الخمسية للتنمية. إلا أن هذه الخطط كانت تنوء بثقل بيروقراطية بعض المسؤولين في الأجهزة الإدارية المترهلة وأنظمتها غير المؤهلة للتنفيذ والتمشي مع تلك الخطط. حيث إن معظم الأنظمة تم نقلها أو اقتباسها من أنظمة بعض الدول الشقيقة، التي تخرج فيها أول فوج من الوزراء الذين كانت تستقبلهم الدولة كوزراء بغض النظر عن مستوى تأهيلهم. وفي وقت يندر فيه وجود متعلمين غيرهم. وقد أخذت هذه القوانين على علاتها وخدمت في وقت كان الجود من الموجود.
ومع أنني لا أؤمن بالقيادات الغربية إلا أنني أقدر للرئيس الأمريكي كندي مقولته المشهورة "لا تسأل ماذا يستطيع وطنك أن يعمل لك بل اسأل ماذا تستطيع عمله لوطنك".
وإحساساً من القيادة بالمعضلة وعدم قدرة بعض الوزراء على تحديث الأنظمة لمجابهة التحدي العالمي فقد بدأت الدولة في خطوات بناءة لتغير بعض مقاعد الوزراء على أمل التخلص من البيروقراطية القديمة وتحديث الأنظمة وتفعيلها. وتقليص تكاليف بعض الأجهزة الحكومية المتهالكة والمترهلة التي تثقل كاهلها. والتوجه لإيجاد أنظمة مرنة وحكومة إلكترونية تديرها كوادر وطنية مشهود لها بالخبرة والتميز مهنياً، يديرها جهاز وظيفي وتشغيلي أصغر، بحيث لا يتأثر بمركزية القرار والروتين والوراثة بالأقدمية أو التبعية بدلا من الأحقية الإنتاجية أو العملية والعلمية.
ولكن التغيير للوزير فقط يقوى سلطة ونفوذ من هم تحته حيث إن البقاء لهم أو للاسوأ كما يقال. فالوزير حسب النظام يمكن تغيره كل أربع سنوات ولكن بقية الوظائف القيادية تبقى لينام عليها بعض المسؤولين وأقاربهم و منذ عشرات السنين وكأنهم ورثوها. أو يحتلها بالأقدمية موظفون دخلوا السلك الوظيفي من دون مؤهلات وكل ما يشفع لهم الأقدمية أو اعتمادهم على بعض الأجانب من الوافدين ليقوموا بأعمالهم.. فلماذا نناقض أنفسنا؟ وإذا كنا نؤمن بأن خطة الدولة في التعليم والابتعاث قد أخرجت ثمارها من الكفاءات الوطنية فأين هؤلاء. التغيبر دائماً مطلوب والاستفادة من الخبرات والكوادر الحديثة التي استثمرت فيها الدولة والابتعاث والتعليم قد تؤدي ثمارها حيث آن الأوان لأبنائنا أن يردوا الجميل لأهلهم وأن يساهموا لبناء مستقبل واعد لهم ولأبنائهم. على أن يتم عمل الامتحانات والمقابلات التأهيلية لانتقائها للتأكد من مناسبتها وقدرتها على إدارة دفة الإدارة والتنمية بدلاَ من المجاملة القبلية والمحسوبية فوق المصلحة العامة الدولة. لقد آن الأوان أن نتبع خطى القائد ونقسو في انتقاد أنفسنا.
إن التغيير أحيانا للوزير لا يغير شيئاَ إلا إذا كان الوزير سيقسو في انتقاد نفسه ووزارته. وذلك بالعمل على تحديث ألأنظمة والقوانين التي هي كما كانت منذ 50 عاما. ويأتي في مقدمتها الأنظمة التي تتعلق بالعمل والعمال والتأمينات الاجتماعية ونظام التقاعد والزكاة والدخل. فهي أحيانا فيها ازدواجية أو تتضارب مع بعضها بعضا وباشتراطات تعجيزية ومن دون وجود أي تنسيق. وهي أنظمة يندر أن ينظر فيها المسؤولين وإن حصل تغير ولو لسطرين خلال عشر سنوات فإنه يعد إنجاز يحتفل به وترصد للقائمين عليها مكافآت مع أنها في صميم عملهم اليومي.
هل ستهتز قلوبنا أسوة بالقائد لنقسو على أنفسنا بالنقد البناء ولإصلاح ما بأنفسنا ولنكون في مستوى المسؤولية الملقاة علينا وألا نجعل الملك يعاني وحده؟