صحافي المرضى النفسانيين
من الرائع أن تسخر وقتك وجهدك لخدمة الإنسانية. أن تكتب عن آلامهم, وأحزانهم, وخيباتهم, والخذلان الذي يمرون به في حياتهم. من الرائع أن تكون صوتا للذين لا يملكون حناجر يتحدثون بها, وأن تكون ناقلا عن كل من لا يملك أن ينقل معاناته أو مأساته.
يعد الإعلاميون أن ما يمر به العالم من كوارث طبيعية, ونكبات, وحروب, ومآس إنسانية جماعية, أو فردية, مادة خصبة للتناول اليومي, وتقديمها في أشكال مختلفة وبتمثلات ومعالجات صحفية متنوعة هو أمر في غاية الاحترافية. كل ذلك يعد أمرا مقبولا ما لم يتجاوز الإعلامي, ويمارس دورا متسلطا على آلام الآخرين ومعاناتهم تجاه حدث ما. فالحقيقة تُـروى, ولكن روايتها مهمة خطرة, حيث ينبغي ألا يقع الإعلامي فريسة لأنانيته وشعوره بالغيره من زملائه الإعلاميين, ولذا يقرر أن يأتي بما لم يأت به السابقون واللاحقون, وهو لا يدرك أن أنانيته هذه ربما تقوده لتجاهل ما يمر به الآخرون من عذاب.
إن أنانية الإعلامي, ورغبته المستمرة في الحصول على سبق للوسيلة الإعلامية التي يعمل بها, من أكثر الأمور التي تقلل من مهنيته, وتجعله يدور في محيط واحد لا يكاد يخرج منه, كأن يُصر الإعلاميون على " مطاردة " المرضى النفسانيين – شفاهم الله - بالشوارع, وعمل تقارير عنهم, بدعوى أن هذا الأمر يصب مباشرة في المعالجة الإنسانية والاجتماعية لمشكلات هؤلاء المرضى, وبدعوى - أيضا – أن هذا الأمر هو ما يريده القارئ. وكذلك إصرار الإعلاميين على نقل حقائق غير صحيحة تجاه كارثة ما, بغية تحقيق (انفراد) لوسائلهم الإعلامية التي ينتمون إليها.
ربما يمكن التجاوز عن كل ذلك, ولكن ما لا يمكن التجاوز عنه, هو ما فعله أحد الإعلاميين حينما أخذ ( دفترا ) لأحد المرضى النفسانيين, وقام بتصويره وعرضه على صفحات الجريدة للقراء, حيث كان هذا (الدفتر) يحتوي على مذكرات شخصية وخواطر لهذا المريض, شفاه الله وعافاه !! أهذا هو العمل المهني؟ أهذه هي الأمانة؟ أليس لهذا الإنسان المريض أي حقوق؟ أليس من حق عائلته أن تعترض؟ أليس لهذا المريض أي خصوصية؟ أليس من حقه أن يكون له أسرار؟ أحتى البوح على الورق استكثره هذا الإعلامي على هذا المريض؟ أم أن من حق الإعلامي أن يفعل ما فعله لأن الطرف المقابل مريض نفسي؟
إن استغلال هؤلاء المرضى ينبغي أن يكون جريمة يعاقب عليها القانون. إن من أهم واجباتنا تجاه هؤلاء المرضى أن نحفظ لهم حقوقهم, وأن نمنحهم إياها حتى لو لم يطلبوها, بل ينبغي أن نعيدها إليهم حتى لو تخلوا عنها. فالعالم اليوم إن لم يسده العدل والإنصاف, فسيسوده الظلم والقهر, ولا أعتقد أن أي أحد منا يحب هذا الأمر لعزيز لديه, فضلا عن أن يحبه لنفسه.
والأدهى من كل ذلك هو ما يقدم عليه الإعلاميون من التخلي عن عواطفهم وإنسانيتهم وأخلاقياتهم عند تعاملهم مع حدث مأساوي, فعند سقوط طائرة إيرباص التابعة لإحدى الشركات الخليجية قبالة سواحل مملكة البحرين في آب (أغسطس) عام 2000، وبعد انتشال جثث الموتى – رحمهم الله – ووضعها بأكياس جلدية مخصصة, طالب أحد الصحافيين بفتح الأكياس لمعاينة طبيعة الجثث, ورؤية مدى إمكانية تصويرها ! ؟ صدقا.. لا يمكنني مواصلة الحديث أكثر.. فلا فائدة للكلام بعد ذلك !!