متاجرة بـ "عذاب الآخرين ".. وامتهان إنسانية المنكوبين لإحراز سبق إعلامي
متاجرة بـ "عذاب الآخرين ".. وامتهان إنسانية المنكوبين لإحراز سبق إعلامي
أحقا هو البحث عن الحقيقة؟ أحقا هذا هو ما يبحث عنه الإعلام وهو ينقل عذابات الآخرين, ويقدم لنا المآسي والكوارث, من خلال آلاف التقارير والمواد الإخبارية التي لا تنتهي؟ ما الذي يدفع وسائل الإعلام للركض المستمر خلف كل حالات العذاب التي تمر بها البشرية؟
إنه السبق الإعلامي, والرغبة في التميز, وتحقيق مكسب إعلامي حتى لو كان ذلك على حساب الإنسان المعذب, الذي يعانق جوعه, ويلتحف بؤسه, ويزدرد مرارة حياته كل حين.
هذا ما يفعله الإعلام باختصار في العديد من الحالات !! يطأ بسهولة على أعناق المنكوبين, ويتجول بينهم, مدعيا نقل الحقيقة, ورصد الحدث كما وقع !! يقدم الإعلام نفسه أنه المنقذ, وفي الحقيقة كل ما يفعله هو أنه – في كثير من الأحيان - يقتات على عذاب الآخرين, ويلوكه أكبر فترة ممكنة بحيث يقدمه للجمهور سبقا إعلاميا, ليحصد من خلاله الثناء, بأنه حقق تميزا لم يسبقه إليه أحد!!
لا شك أن للإعلام دورا رياديا في نقل الأحداث, وليس ذلك فقط, بل في تفنيدها وتحليلها, وتقديم استنتاجات, قد لا يلم بها القارئ من خلال سماعه بالحدث فقط, لا شك في كل ذلك. ولكن الأمر الأهم هو هل يبحث الإعلام عن كارثة ليتسلق عليها؟ هل يبحث الإعلام عن النكبات ليرصدها وبذلك يحرز سبقا إعلاميا متجاوزا كل الحدود الإنسانية؟ هل حقا الإعلام يتعاطف مع القضايا الإنسانية, أم أنه يتعامل معها على أنها حدث, ولا بد للوسيلة الإعلامية أن تستفيد من هذا الحدث بأقصى قدر ممكن؟
من خلال قراءة مسحية للمحتوى الإعلامي المقدم في الكوارث والنكبات والمآسي الإنسانية, نجد أن الإعلام يمارس دورا مهنيا بحتا, بل يبالغ في المهنية, دون مراعاة لما حل بالآخرين. فبكاء طفلة من الألم يعني أن المهمة هنا ينبغي أن توجه لتقديم هذه الطفلة إعلاميا, ورصد بكائها وألمها, وعرضه على الملايين, دون التفكير ولو لقليل أن هذه الطفلة إنسانة.. من حقها أن نراعي ألمها ومعاناتها. لا يفكر الإعلاميون وهم يقدمون تقريرا لأم ثكلى تندب ابنها المقتول بالرصاص قبل قليل.. إنهم الآن في هذه اللحظة يمتهنون إنسانية هذه الأم.. يمتهنون حزنها في سبيل رصد حدث.. ونيل سبق إعلامي !! لا يفكر الإعلاميون أن الجياع الذين يتجولون بينهم ويلتقطون صورا لعريهم.. ويكتبون التقارير في بؤسهم أنهم بشر.. يحسون.. ولهم الحق أن يتمتعوا بآدميتهم.
كل ذلك لا يعني أن الإعلامي لا ينبغي له أن يجتهد في نقل المآسي والكوارث. ولكن المقصود أن الإعلامي ينبغي أن يكون إنسانا بالدرجة الأولى.. أن يحس بعذاب الآخرين ويتألم لأجلهم, وحينما يكتب عنهم, فإنه يكتب لأنه يؤمن بقضيتهم, وليس لأجل نصر مؤقت, وتحقيق سبق إعلامي لا يضيف لإنسانيته شيئا.
الدور الفعلي للإعلام الحقيقي هو الإيمان بالقضايا العادلة وتبنيها.. هو تقديم الحقيقة لأنها الحقيقة.. والإعلامي الحقيقي هو الذي يرضي ضميره.. ويمارس إنسانيته وتعاطفه مع الآخرين وعذاباتهم, وأن يقدم عمله المهني لأنه يؤمن به, وليس لأنه يريد أن يرضي المسؤولين في الوسيلة الإعلامية.