أسعار النفط الحالية ليست فجائية .. وتزايدها منتظم ومدروس وتراكمي

أسعار النفط الحالية ليست فجائية .. وتزايدها منتظم ومدروس وتراكمي

أسعار النفط الحالية ليست فجائية .. وتزايدها منتظم ومدروس وتراكمي

[email protected]

في الماضي كانت ارتفاعات الأسعار في النفط تتكون عبر موجات سعرية تتصاعد بعنف نتيجة هزات جيوسياسية، وتحدث انتقالا أو تحويلاً فيما يعرف بـالدولار النفطي Petrodollar إلى الدول المنتجة، ولكن هذه العائدات النفطية لا تلبث أن تعاد أو تتحول للدول الصناعية في خلال وقت قصير، أي أنه يتم تدوير الجزء الأكبر من الدولار النفطي Petrodollar بشراء صفقات السلاح الغربية أو باستيراد حاجات استهلاكية ومن دون فوائد نوعية على الدول المنتجة. وبهبوط الموجة ، بعد زوال الصدمة، تنخفض أسعار النفط نزولاً حاداً، وتتسارع الدول الغربية المستوردة للنفط إلى زيادة ضرائبها النفطية على الاستهلاك المحلي بما يعادل انخفاض أسعار النفط، والذي وصل أحياناً إلى ما يعادل 70 في المائة من السعر للمستهلك النهائي, وبالتالي لا يشعر المواطن الغربي بانخفاض السعر, نظراً للزيادة الضريبية الموازية عكسياً للانخفاض، مما أثر عكسياً في نقص الطلب على النفط AOCD، وبالتالي استمرار انخفاض سعر البرميل إلى مستويات متدنية جداً للمنتج ويذكر بعض الدراسات للدوائر الأكاديمية الغربية أن الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لا يصلها إلا 13.38 في المائة في أحسن الحالات من السعر النهائي للمواد المكررة كالبنزين في الدول المستوردة للنفط، أما الباقي فهو ضرائب حكومية ومكاسب تجنيها مصافي التكرير الغربية وشركات النقل وتجار الجملة والتجزئة، أي أن معظم الزيادة في سعر البنزين للمستهلك مثلا يذهب لغير الدول المنتجة للنفط. ودخلت دول مثل الصين والهند والبرازيل ودول آسيا كمستهلكين جدد للنفط في الساحة العالمية نتيجة الطفرة الاقتصادية والصناعية التي كان الحافز لها أصلا توافر البترول بأسعار متدنية جداً، وتبوأت تلك الدول الصدارة في ارتفاع الطلب المتزايد على النفط إلى درجة أن الدول المنتجة للبترول لا تستطيع نسبياً إيفاء الاحتياجات النفطية المتزايدة. وتشهد الصين انتعاشا اقتصادياً سريعاً ومستمرا ترتب عليه استهلاك غير مشهود في النفط، وأصبحت من أكبر مستوردي النفط بعدما كان لها اكتفاء ذاتي منه قبل عشر سنوات. ففي خلال السنوات العشر الماضية تضاعفت حاجة الصين إلى البترول بأكثر من الضعف 100 في المائة ويزداد استهلاكها للنفط بمعدل يزيد على نحو 8 في المائة سنوياً.
وحسب التقارير العالمية أن هذا العملاق الآسيوي سيعتمد على النفط بنسبة 50 في المائة لتوفير مصادر الطاقة مما يعني أن النمو في الصين لا يزال في بداياته. ولم تتخذ الصين أي سياسات عكسية أو ضرائبية ضد استهلاك الطاقة المرتبط بالنمو الاقتصادي كما فعلته الدول الصناعية الغربية، وتؤكد التقارير العالمية في الوقت الحاضر أن الصين ستكون أكبر مستهلك للطاقة في العالم في خلال ثلاثة أعوام فقط, نظرا للنمو العظيم في الصين مما سيعيد رسم خريطة الطاقة العالمية التي تتبوأ الولايات المتحدة قمتها.
كما أن النمو الاقتصادي والصناعي في الهند والبرازيل ودول آسيا في حالة تصاعد مستمر، وبمعدلات النمو المحققة سنة بعد أخرى أسهم في زيادة الطلب على البترول. وفي الواقع الفعلي فإن معدلات الطلب على النفط سجلت هذه السنة زيادة عن السنة الماضية بلغت أكثر من مليون و500 ألف برميل يوميا. وتتوقع الوكالة الدولية للنفط في تقاريرها الشهرية لأسواق النفط, أن الطلب سيرتفع بمعدل مليونين و200 ألف برميل يوميا خلال السنة المقبلة, هذا بافتراض أن النمو الاقتصادي في الصين والهند يسير بصورة طبيعية, ولكن إذا نمت تلك الاقتصاديات بمعدلات أسرع، وهو المتوقع، فسيرتفع الطلب بدرجة أكبر من المتوقع في الطلب.
وكما نرى فإنه وعلى خلاف الماضي، ففي حين كانت الارتفاعات السابقة في الأسعار تنتج عن اضطرابات ظرفية في الإمدادات بسبب عوامل جيوسياسية، فإن زيادة الطلب على البترول خلال الأعوام الأربعة الماضية يعود إلى نتيجة النمو الاقتصادي المستمر في الدول الصناعية واستمرار اقتصادات الدول النامية في النمو وبمعدلات سريعة, هذا إضافة إلى الحاجة إلى نفط يمكن تكريره واستخراج البنزين منه من أجل تلبية الاستهلاك المتنامي في الولايات المتحدة، وتناغم عوامل وعناصر ظرفية مع هذا العامل الأساسي، أي الطلب العالمي المتزايد، في عدم كفاية الإنتاج لتلبية ارتفاع الطلب على الطاقة مع ضغوط على الإمدادات تدفع أسعار الطاقة العالمية للارتفاع.
وفي ظل الفجوة الكبيرة بين الطلب والعرض لصالح الطلب بسبب العامل الأساسي, وهو زيادة الطلب المتنامية على النفط بسبب النمو الاقتصادي العالمي كما أوضحنا، أصبحت تلك العوامل الجيوسياسية وحتى المناخية الظرفية، عوامل تزيد من الفجوة بين العرض والطلب على النفط وبآثار قد تتفاعل مع العوامل الأساسية, ويمتد أثرها إلى المدى المتوسط وحتى البعيد. كل هذه العوامل مع ظروف أخرى اجتمعت معاً تثير مخاوف حول إمكانية انقطاع إمدادات النفط منها الخطر على ما يعرض الإمدادات النفطية للانقطاع، وهذه المخاوف تدفع الدول إلى شراء المزيد من النفط في السوق المفتوحة من أجل الإضافة إلى الاحتياطي البترولي الاستراتيجي لتلك الدول الصناعية, والذي يؤدي إلى زيادة الطلب ويؤدي بدوره إلى ارتفاع سعر البترول الفوري وفي العقود الآجلة.
وهنا نرى أن الارتفاعات الحالية في أسعار النفط لم ترتفع ارتفاعا مفاجئا كما كانت عليه الحال في العقود الثلاثة التي تلت حرب تشرين الأول (أكتوبر)، بل تمت خلال فترة طويلة نسبياً وبتزايد منتظم ومدروس وتراكمي وفي ظل دخول مستهلكين جدد كالصين والهند والبرازيل ودول آسيا وباستهلاك تصاعدي مستمر وبمعدلات النمو المحققة سنة بعد أخرى، وهذا لم يحدث في تاريخ السوق النفطية من قبل، حيث إن الأسعار الآن وصلت نحو 100 دولار للبرميل في ظل ارتفاع الطلب وغياب أي فائض إنتاجي من الدول الأعضاء في "أوبك"، وفي ظل انخفاض إنتاج الدول من غير "أوبك" وكذلك انخفاض إجمالي مخزونات النفط لدى الدول الصناعية بنهاية 2007م بنحو 20 مليون برميل عن متوسطها في خمس سنوات.
كما أنه وفي حالة انخفاض الأسعار بطريقة ما في السنة القادمة، وهو أمر غير محتمل، فإنها لن تنخفض بشكل مفاجئ ولن تلازم ذلك الانخفاض آثار سلبية, كما هي الحال في السابق. فالعالم الآن يتكيف بشكل جيد مع ارتفاع الأسعار الحالية أي في حدود 100 دولار, لأنها وصلت تدريجياً كما أن 100 دولار في واقع الأمر، تعد أقل من المستويات السائدة في أوقات ارتفاعات سابقة للأسعار, أي إذا أخذنا أسعار الصرف وضعف الدولار والتضخم في الحسبان، حيث بلغ الدولار أدنى مستوى له مقابل اليورو والين الياباني ما أدى إلى ارتفاع أسعار البضائع والخدمات, فعلى سبيل المثال, تبلغ الآن تكاليف الحفر أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه عام 2000, والصورة مماثلة لما عليه من زيادة تكاليف الإنتاج والتكرير والذي سيخلق هامشاً ربحياً قليلا للدول المنتجة للنفط, والتي سيبلغ إنتاجها في جده الأقصى 31 مليون برميل يومياً، ومع زيادة المخاوف على ضعف نمو الاقتصاد الأمريكي عام 2008م، فستستبق "أوبك" ذلك إما برفع الإنتاج وإما بتخفيضه قليلاً عندما ترى أن الطلب قد يكون أقل مما كان متوقعاً، فضعف الاقتصاد الأمريكي سينعكس سلبياً على نمو الاقتصاد العالمي, وبالتالي سينخفض الطلب على البترول قليلا، وعليه فمن مصلحة الدول المنتجة للبترول مسايرة نمو الاقتصاد العالمي والعمل على استمرار نمو الاقتصاد العالمي الذي يبدو أنه تكيف على مستويات 100 دولار.

الأكثر قراءة