التجمعات الصناعية البديل القادم لبرامج التنمية الاقتصادية التقليدية

التجمعات الصناعية البديل القادم  لبرامج التنمية الاقتصادية التقليدية

مع ازدياد حدة المنافسة بين دول العالم نتيجة للانفتاح الاقتصادي، ومع تراكم الخبرات والتجارب تبين أنه لا يمكن لكل دولة أن تنتج كل شيء وأن تنافس في كل شيء. ووجد أن الحل الأمثل لمسألة انفتاح الأسواق وفقد مزايا الحماية السابقة هو في التخصص، فلكل دولة من دول العالم سلعة أو مجموعة سلع لا يمكن مجاراتها فيها نظراً لامتلاكها ميزة نسبية أو تنافسية فيها، حتى أكثر الدول تنوعاً في المنتجات نجد لديها تركيزاً (تخصصاً) في إنتاج سلعة ما ومشتقاتها، تركز عليها وتحاول تعظيم حجم الاستفادة منها. ومن هنا نشأت نظرية الميزة التنافسية للدول، والتي تعتمد على تنافسية صناعة أو صناعات محددة في الدولة يهيأ لها المناخ الاستثماري المناسب للازدهار، وتنشأ تنافسية هذه الصناعة من تكامل وترابط جميع مكونات أنشطتها والأنشطة المساعدة لها بشكل هرم أو عنقود Cluster صناعي.

ويحظى مفهوم التجمعات الصناعية العناقيد الصناعية في السنوات الأخيرة بقبول متزايد لدى واضعي السياسات التنموية في مختلف دول العالم، وتتبنى معظم دول العالم اليوم برامج تنمية التجمعات الصناعية في خططها التنموية لرفع مستوى نمو وتنافسية اقتصاداتها، متخلية بذلك نوعا ما عن برامج التنمية الاقتصادية التقليدية والتي تبين ضعف مردودها مقارنة بتكلفتها، حيث تسعى هذه البرامج لإعطاء الصناعات كافة نصيبها من الموارد المتاحة والمحدودة وتتطلع لتنمية وتنويع قاعدة الإنتاج لكل هذه الصناعات في وقت واحد. في المقابل فإن برامج وسياسات التجمعات الصناعية تتجه لتنمية تخصص محدد ضمن صناعة معينة، وتتعامل مع هذا التجمع والشركات المكونة له كنظام مترابط. وبتركيز برامج تنمية التجمعات على تخصص محدد في صناعة معينة تتمكن من تحديد عقبات واحتياجات هذه الصناعة بدقة أكبر، وهو ما يجعل القدرة على تجاوز العقبات وتوفير الاحتياجات أسهل، بالتالي تحقيق الأهداف التنموية المطلوبة. كما أن نمو هذه الصناعة سيستقطب ويولد صناعات أخرى وهو ما يوصل لهدف تنويع القاعدة الصناعية. وقد شجع نجاح تجربة التجمعات الصناعية في بعض الدول العديد من الدول الأخرى على الدخول في هذه التجربة، ففي آذار (مارس) 2007م أعلنت المملكة العربية السعودية عن مبادرة برنامجها الوطني لتطوير التجمعات الصناعية، لذلك سنسعى من خلال هذه الدراسة إلى إلقاء المزيد على هذه البرامج الاقتصادية .

مفهوم التجمعات الصناعية

التجمع الصناعي هو تجمع جغرافي لمجموعة من الشركات والمؤسسات المساندة التي تعمل في صناعة/نشاط معين، تترابط وتتكامل فيما بينها في إنتاج مجموعة من منتجات أو خدمات هذه الصناعة/النشاط. وتتلخص فكرة التجمعات الصناعية في وجود تجمع جغرافي لعدد من الشركات والمؤسسات المرتبطة والمتصلة ببعضها بعضا في مجال معين، بحيث تدخل في علاقة تكامل وتشابك فيما بينها رأسيا وأفقيا في جميع مراحل العملية الإنتاجية مكونة بذلك السلسلة الكاملة للقيمة المضافة للمنتج، وتشمل هذه العلاقة تبادل السلع والخدمات والمعلومات والخبرات والموارد البشرية.

والشركات والجهات التي يفترض أن يضمها التجمع هي: مصنعو المنتجات النهائية، مصنعو وموردو مدخلات الإنتاج والمعدات المستخدمة فى العملية الإنتاجية، منتجو المنتجات المكملة، والشركات التي تستخدم مدخلات متشابهة أو عمالة وتقنية متقاربة. ويضم هذا المحيط قنوات التسويق المختلفة والمشترين والمصدرين، كما يضم مؤسسات التمويل المختلفة، وحاضنات الأعمال، والجهات التعليمية والتدريبية المتخصصة كالجامعات والمعاهد، ومراكز البحث والتطوير العلمي والدعم الفني. إضافة إلى مقدمي الخدمات الأساسية وخدمات البنية التحتية الخاصة بتلك الصناعة، والجهات الحكومية وغير الحكومية التي تهتم وترعى شؤون وبيئة الاستثمار.

وتختلف تنمية التجمعات عن التنمية الإقليمية من حيث النشاطات الاقتصادية المستهدفة، فالتنمية الإقليمية تستهدف كل النشاطات الموجودة في المنطقة بينما يتعامل التجمع مع مجموعة محدودة من هذه النشاطات ذات العلاقة بإنتاج أو دعم إنتاج منتج / منتجات التجمع . كما أن هناك فرقا بين تنمية التجمعات الصناعية وتنمية القطاعات وهو أن تنمية القطاع لا تنحصر في موقع جغرافي كما أنها تستهدف تشكيلة واسعة من منتجات القطاع بينما التجمع يستهدف عددا محدودا جداً من منتجات القطاع قد لا يزيد على منتج واحد في موقع جغرافي واحد.

نشأة وتطور التجمعات الصناعية

منذ الأزل كان كل تجمع بشري يتميز بصناعة أو حرفة معينة للكسب، ويتميز سكان هذا التجمع عن غيرهم في التمكن من هذه الصناعة والقدرة على الاستفادة منها. فهناك التجمعات الزراعية التي يعمل معظم سكانها في الزراعة نظراً لما تتميز به منطقتهم من مزايا نسبية للزراعة ولوجود المزارعين المهرة الذين تراكمت لديهم المعرفة والخبرات، أما بقية السكان غير المزارعين فيعملون في أعمال تخدم هذا النشاط. وهناك تجمعات القرى والمدن البحرية التي يعمل معظم سكانها في صيد السمك، في حين تخصصت مجموعات منهم في صناعة السفن ومجموعات أخرى في صناعة وسائل الصيد، وهكذا فكل من في هذه المدينة يعمل بشكل أو بآخر في أعمال لها علاقة بالبحر. وقد لفت الفرد مارشال في عام 1920م الانتباه لأهمية التجمعات الصناعية والفوائد التي يمكن أن تجنيها منها الشركات. ومن هذه الفوائد التي ذكرها انتشار المعرفة والمعلومة بين الشركات وقرب موردي المواد الخام وسهولة الحصول على المدخلات الوسيطة والعمالة المدربة واستقطاب العملاء. وأكد أن حصول الشركات على هذه الفوائد مرهون بتجمع عدد من الشركات الصغيرة التي تعمل في المجال نفسه في مكان محدد.

وتزايد الاهتمام العالمي بالتجمعات والمناطق الصناعية بعد بروز تجربة ناجحة عرفت باسم (إيطاليا الثالثة) في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الميلادي الماضي. ففي الوقت الذي كان فيه القسم الشمالي الغربي من إيطاليا (إيطاليا الأولى) الغني تاريخيا يعاني من أزمات اقتصادية حادة، والقسم الجنوبي الفقير (إيطاليا الثانية) يشهد نموا ضعيفاً، استطاع القسم الشمالي الشرقي والأوسط (إيطاليا الثالثة) تحقيق نمو سريع، وذلك بفضل ازدهار عدد من القطاعات الصناعية التي تسودها الشركات الصغيرة، حيث تجمعت الشركات التي تعمل في المجال نفسه في مواقع محددة، ومكنها هذا التجمع من اقتحام الأسواق العالمية ثم تسيدها في سلع تعد تقليدية كالأحذية، الأثاث، السيراميك، الملابس المحبوكة، والأغذية وغيرها، ولاحقاً ومع عمليات تطوير القدرة الابتكارية ورفع الكفاءة وتخصص العمالة الماهرة أصبحت إيطاليا هي الرائدة في صناعة الآلات المستخدمة في تصنيع هذه السلع.

وظهر أول تعريف واضح لمفهوم التجمعات الصناعية في عام 1990م، طرحه البروفيسور مايكل بورتر رئيس ومؤسس معهد التنافسية في جامعة هارفارد، في كتابه المزايا التنافسية للأمم Competitive Advantages of Nations فبعد العديد من الدراسات والأبحاث التي أجراها عن كيفية تطوير تنافسية الدول وجد أن أفضل أسلوب لتحقيق هذا الهدف هو التركيز على سياسات الاقتصاد الجزئي وإيجاد مناخ استثماري جاذب للشركات الصغيرة والمتوسطة، ووجد أن أفضل بيئة لهذه الشركات هي بيئة التجمعات الصناعية.

أهميتها الاقتصادية

يعتبر أسلوب التجمعات الصناعية إحدى أفضل وسائل التنمية الصناعية، وهو أحد أهم وأحدث أساليب رفع معدلات النمو الاقتصادية والاجتماعية الكلية، إذ يسهم بشكل كبير في نمو وازدهار المشاريع الصغيرة والمتوسطة وخفض معدلات البطالة والقضاء على الفقر وجذب الاستثمارات الأجنبية والتطوير التكنولوجي وزيادة الصادرات. ففي الهند على سبيل المثال يوجد أكثر من 388 تجمعاً صناعياً تحتضن 77 في المائة من عدد المشاريع الصغيرة والمتوسطة و72 في المائة من فرص العمل و61 في المائة من حجم الاستثمارات، وتشير بعض التقديرات إلى أن هذه العناقيد تسهم بنحو 60 في المائة من صادرات الهند. وفي إيطاليا تصدر التجمعات 57 في المائة من صادرات إيطاليا الصناعية وتوظف نحو 65 في المائة من العاملين في القطاع الصناعي. ويوجد في قاعدة بيانات معهد التنافسية وحدها معلومات عن 800 تجمع صناعي في 52 بلداً حول العالم. ويتعدى الأثر الإيجابي للتجمعات الصناعية تطوير تنافسية التجمع إلى الوصول بموارد الدولة المحدودة إلى طاقاتها القصوى، نتيجة التخصص وتركيز الجهود في النشاطات مرتفعة القيمة المضافة بدلاً من توزيعها على عدد من الأنشطة الاقتصادية. كما أنه نتيجة لتأثر الأنشطة الاقتصادية ببعضها بعضا فإن أثر المضاعف لارتفاع القيمة المضافة لهذا القطاع على القطاعات الأخرى يكون أكبر مما لو استهدفت جميعها معاً.

وقد أثبت العديد من الدراسات أن الشركات التي تعمل ضمن تجمع صناعي تتمع بكفاءة
وتنافسية أعلى مقارنة بتلك المعزولة، ويوفر العمل ضمن التجمعات الصناعية العديد من المزايا للشركات، من أهمها خفض ملموس في تكاليف الإنتاج بصفة عامة ورفع الكفاءة الإنتاجية، نتيجة لقرب ورخص مدخلات الإنتاج الرئيسية (كالمواد الخام والعمالة). كذلك من المزايا توفير البنية التحتية المناسبة للصناعة وتسهيل الوصول للموارد المالية اللازمة، نتيجة لوجود أسواق مالية تتفهم هذه الصناعة. أيضا من المزايا زيادة فرص التخصص وهو ما يسمح بإعادة هيكلة الصناعة وظهور منتجات جديدة. التكامل مع الشركات الأخرى للحصول على مزايا الحجم والمقدرة على دخول أسواق جديدة. ومن المزايا لتلك التجمعات الصناعية إمكانية الحصول على الأسعار التفضيلية لشراء كميات كبيرة من المواد الخام، تسهيل الوصول إلى العمالة المدربة والموردين المتخصصين، كذلك تسهيل تبادل المعلومات واكتساب المعرفة، ومنها سرعة الاستجابة للتغيرات في الصناعة. ومن أبرز إيجابيات هذه التجمعات زيادة القدرة الابتكارية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاجية والتطوير المستمر.

عناصر التجمعات الصناعية
العناصر الأساسية في التجمع هي الشركات والحكومة والجهات البحثية والمؤسسات المالية تربطها معاً وبصورة ممنهجة ومنظمة هيئات ومؤسسات خدمات الأعمال الرسمية وغير الرسمية، التي قد تكون مستحدثة أو قائمة كالغرف التجارية والاتحادات الصناعية والتجارية وهيئات تنمية الصادرات وبرامج تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة وغيرها. وفيما يلي استعراض سريع ومبسط لدور كل جهة من تلك الجهات:
دور الشركات: الشركات هي المحرك الرئيسي للتجمع والعنصر الذي تقوم بدعمه جميع العناصر الأخرى - ليقوم بدوره في عمليات الإنتاج وتفعيل الابتكارات وإيجاد فرص العمل وجلب التقنية واستقطاب الاستثمارات ورفع القيمة المضافة وزيادة الصادرات.
- دور الحكومة: الدور الحكومي من أهم الأدوار في تأسيس التجمع وضمان نجاحه واستمراريته، فمنذ البداية يعول عليه في تنظيم ودراسة التجمعات ودرجة أهميتها للاقتصاد واختيار أنسبها. وهو الذي يقوم بضمان وضع الخطط والسياسات اللازمة لتطوير التجمع قيد التنفيذ، كما يقوم بالمساعدة في بناء علاقات التجمع مع الجهات الحكومية والخاصة المختلفة التي يمكن أن تساهم في دعم تنمية التجمع. إضافة إلى تقديم الدعم المادي لتشجيع القطاع الخاص والمؤسسات الأخرى للمشاركة في تنمية التجمع، وضمان سد الفجوات والآثار السلبية التي قد تسببها مبادرات تنمية التجمعات في الصناعات والتجمعات القائمة في الدولة.
- دور الجهات والمؤسسات الداعمة: وتشمل الجهات البحثية والمؤسسات المالية ويختلف الدور الرئيسي لهذه الجهات كل حسب اختصاصه في توفير التقنية، الابتكارات، التمويل، التدريب، البحوث، والتطوير. إلا أن الدور الأهم الذي تلعبه هو إقامة جسور التواصل بين الشركات العاملة في التجمع.

دور هيئات ومؤسسات خدمات الأعمال: الدور الرئيسي لهذه الهيئات هو تشجيع التعاون بين الشركات العاملة في التجمع وزيادة ديناميكيته من خلال إيجاد التحالفات والمشاريع المشتركة والترويج للمنتجات، كما تهدف لإيجاد رؤية مشتركة للشركات العاملة، وتعمل على تأطير وتنظيم الروابط بين شركات التجمع ببعضها وبينها وبين الجهات الأخرى خارج ذلك التجمع.
ويتطلب التجمع الصناعي توافر بعض العناصر الضرورية في البيئة المحيطة بالتجمع، التي تعد ضرورية لنشأته وزيادة فاعليته ونشاطه. ومنها وجود بنية فعالة من الأنظمة والقوانين، وبنية تحتية حديثة خصوصاً في مجال الاتصالات والمواصلات، ومؤسسات علمية وبحثية (جامعات ومراكز بحوث). كما يعد توافر البنية التحتية الاجتماعية وهو ما يعرف برأس المال الاجتماعي Social Capital التي يقصد بها الترابط بين أفراد المجتمع (أفرادا وأسراً ومدارس ومؤسسات وشركات وجهات عامة) ورغبة كل منها في مساعدة الآخر. ويعد رأس المال الاجتماعي من أهم متطلبات التجمع الفعال حيث إن انتقال المعلومات وتبادلها يتطلب مجتمعاً متفاعلاً مع بعضه يقدر مبدأ تبادل المنافع، ويتميز التجمع الناجح بارتفاع مستوى الثقة بين عناصره واشتراكهم في رؤية موحدة لتطوير التجمع. وأي تحول أو عزوف لدى المجتمع عن صناعات التجمع نحو صناعات مختلفة بعيدة قد يؤثر في مستقبل وتنافسية العقود. كما يعد توافر رأس المال البشري (الموارد البشرية المؤهلة) ضمن المتطلبات الضرورية للتجمع الصناعي، حيث تعد من أهم متطلبات قطاع الأعمال، الذي أصبح مع الاستخدام الكثيف للتقنيات الحديثة وتطور عمليات التصنيع يركز أكثر فأكثر على الأيدي العاملة الماهرة والمتخصصة التي تتمكن من تشغيل واستخدام وتطوير هذه التقنيات. ويعد توافر العمالة الماهرة بالذات أحد أهم عوامل الإنتاج حسماً في استقطاب الشركات للعمل في العنقود، إذ هي ليست كالمدخلات الأخرى التي يمكن استيرادها وكمثال على ذلك عنقود صناعة البرمجيات في بنجالور.

عناصر العنقود الأساسية مبادئ عمل التجمع وآليته

تقوم فكرة آلية عمل التجمع الصناعي على أربعة مبادئ أساسية هي: التركز الجغرافي، والتخصص، والابتكار، والمنافسة (التعاون)، ومن خلال تضافر هذه المبادئ يمكن للتجمع أن
يصل للتنافسية المطلوبة. وفيما يلي شرح لهذه المبادئ وطريقة عملها وتأثيرها في التجمع والشركات العاملة فيه: التركز الجغرافي: هو أول مبدأ تقوم عليه آلية عمل التجمعات الصناعية حيث تجتمع الشركات في مكان ما نتيجة لوجود ميزات ملموسة Hard Aspects وتشمل الموارد الطبيعية أو البنية التحتية. وتأتي الشركات إلى هذا التجمع رغبة في خفض التكاليف، والحصول على مزايا الحجم، أو لوجود المتخصصين في دعم عوامل الإنتاج من موردين وماليين وتقنيين وعمالة ماهرة وتكنولوجيا. كما تأتي رغبة في القرب من الأسواق لزيادة مبيعاتها، وفي رفع مقدرتها
على الاستجابة لرغبات الزبائن وأذواقهم من خلال الاحتكاك المباشر بهم والذي قد يقود
إلى تطوير الإنتاج وهو ما يخلق مزيدا من الطلب، أو رغبة في الاستفادة من الميزات غير الملموسة Soft Aspects والتي تتمثل في الحصول السريع على المعلومات عن المنتجات الجديدة وعن طرق الإنتاج والتكنولوجيا الحديثة والأسواق، ورغبة في الاستفادة من رأس المال الاجتماعي الذي يسهل الحصول على المعرفة وتبادل المعلومات وعمليات التعليم والتطوير وتوسيع العلاقات.
التخصص: التجمع الفاعل بحاجة إلى شركات قوية في تخصصها تتكامل مع بعضها في إنتاج منتجات أكثر تخصصاً وتميزاً، وبمقدار ما تكون هذه الشركات متمكنة من تخصصها وسباقة في طرح وتطوير منتجاته بقدر ما يكون التجمع قادراً على النجاح. إلا أن هذا لا يعني أن ينغلق التجمع على نفسه، فارتباطه بعلاقات مع تجمعات أخرى قد يعمل على تطوير هذا التجمع وربما يثمر عن إيجاد منتجات وتجمعات جديدة متخصصة فيها، مثال ذلك علم التكنولوجيا الحيوية
Biotechnology والذي هو نتيجة تعاون عدة تجمعات وتخصصات هي العلوم الطبية وعلم الأغذية والزراعة والبيئة.

الابتكارات: وهي المقياس الحقيقي لحيوية التجمع وتنافسيته، فعندما تبتكر شركة منتجا ما يسارع المنافسون للبحث عن إنتاج منتج منافس بينما يقوم المقلدون بإنتاج المنتج نفسه بتكلفة أقل وقد يتضمن ذلك قليلا من التحسينات على المنتج. هذا الوضع يدفع الشركة المبتكرة إلى تطوير منتجاتها أو ابتكار منتجات جديدة أخرى للتغلب على المنافسين والمقلدين، وهكذا تستمر هذه الدورة وهو ما يؤدي إلى مزيد من الابتكارات ويحقق تنافسية التجمع.
المنافسة: المنافسة بين الشركات من أهم مبادئ التجمع وهو الذي يحافظ على زخم النشاط فيه، فالتنافس بين الشركات هو الحافز الذي يدفعها نحو البحث عن المزيد من الابتكارات وتطوير المزيد من التقنيات، وهو ما يؤدي إلى إيجاد تخصصات ونشاطات جديدة، وينشط حركة البحث العلمي، كما أنه يسهم في رفع مستوى كفاءة القوى العاملة نتيجة زيادة الطلب عليها وعلى برامجها التدريبية. ولمحدودية المنافسة أثر سلبي في تنافسية التجمع وتكلفة الكثير على المستوى البعيد حيث يقل عدد الشركات والوظائف ومستوى التقدم التكنولوجي.
التعاون: وهو مبدأ لا يتناقض مع المبدأ السابق فنمو شركة ناجحة وتنافسية يحفز الطلب من قبل هذه الشركة على منتجات الشركات الموردة لها، ومع تطور التجمع تتعزز علاقات التبادل بين شركاته وتتدفق المنفعة من الأمام إلى الخلف والعكس. كما أن الروابط التي يوجدها التجمع بين بعض الشركات من خلال التحالفات والإنتاج المشترك وغيره من أنواع التعاون يعود عليها بنفع أكبر من عملها مستقلة من خلال مشاركتها في منتجات جديدة وخفض تكاليف الإنتاج أو رفع الجودة أو الحصول على أسواق وعملاء جدد. ولإعطاء مثال على طريقة عمل التجمعات الصناعية، في أواسط التسعينيات ظهر تجمع صناعة الكمبيوتر وتقنياته في وادي السيليكون في كاليفورنيا نتيجة لتجمع عدد من الشركات المتخصصة في مجال صناعة الكمبيوتر وبرامجه في ذلك المكان، وبدأت هذه الشركات في إطلاق العديد من الابتكارات الناجحة وهو ما استقطب العديد من الشركات الجديدة المنافسة والمقلدة كما استقطب العديد من فروع الشركات الدولية، للاستفادة من توافر المختصين من المهندسين والمبرمجين والأيدي العاملة المحترفة التي اكتسبت الكثير من الخبرة خلال عملها في الشركات المختلفة، وللاطلاع عن كثب على أحدث التقنيات التي يمكن من خلالها تطوير فكرة جديدة أو منتج ما. ومع تزايد أعداد الشركات واحتدام حدة المنافسة تسارعت وتيرة الابتكارات وانطلقت ثورة تكنولوجيا المعلومات، ودخل العديد من الشركات في تحالفات مختلفة داعمة بذلك موقفها وموقف التجمع التنافسي، لدرجة أن أي شركة حول العالم تريد أن تدخل في هذا النشاط فلابد أن تبدأ من هناك أو تضع لها فرعاً هناك، كما استقطب هذا التجمع المحترفين والمختصين من أنحاء العالم نظراً لإمكانية إيجاد فرص العمل المناسبة لهم.

أنواع التجمعات ومراحل حياتها
حظيت التجمعات الصناعية بالعديد من الدراسات التي تحاول إيجاد تقسيم معين لأنواعها وقد تعددت الأنواع والتقسيمات حسب كل دراسة، ولكن أشهر هذه التقسيمات هي التي صنفتها حسب نوعية التكامل (الترابط). وبغض النظر عن نوع التجمع فإن نموه وتطوره يمر بعدة مراحل متدرجة تشكل مسيرة حياته، وهي مراحل متطابقة لجميع أنواع التجمعات. وفيما يلي استعراض لأشهر أنواع التجمعات ولمراحل الحياة التي يمكن أن يمر بها التجمع .
تختلف أنواع التجمعات الصناعية بحسب المفاهيم والمعايير التي ينظر للتجمع من خلالها، والتي قد تبحث في أنواع التجمعات حسب النشأة أو المنتج أو درجة التخصص أو نوعية الترابط أو حسب الهيكل أو الحجم أو الاتجاه التسويقي أو الحيوية وغيرها.
فحسب النشأة يمكن أن يتكون التجمع بشكل طبيعي (تلقائي) نتيجة لوجود تاريخ قديم للمنطقة في هذه الصناعة نتيجة لتوافر الموارد الطبيعية والمواد الخام أو لوجود المهارات اللازمة لدى السكان أو ارتفاع الطلب المحلي. ولتنمية هذا النوع من التجمعات تطبق سياسات معينة لتفعيل التجمع وإزالة العوائق التي تحد من نموه، بهدف الوصول للطاقة القصوى من الإمكانات المتاحة له. ومعظم دول العالم التي تتبع أسلوب التجمعات الصناعية تركز على هذا النوع من التجمعات، حيث يتميز بمعقولية تكلفته كما أن نتائجه عادة ما تكون سريعة وعلى مستوى كبير من الموثوقية. ويمكن أن يكون التجمع مصطنعاً (مستحثاً) عبر سياسات وإجراءات معينة مبنية على دراسات تشير لإمكانية إيجاده. إلا أن تنميه هذا النوع تستغرق وقتاً أطول وتكلفة أكبر مقارنة بالنوع السابق، وهو ما يرفع من درجة المخاطرة في اختياره.
وحسب المنتج يمكن أن يصنف التجمع على أنه تجمع صناعة السيارات كما في (ديترويت وجنوب ألمانيا) أو تجمع خدمات مالية (لندن ونيويورك) أو خدمات سياحية أو إعلامية (هوليوود)، أو تجمع صناعة الاتصالات (ستوكهولم في فنلندا) أو حاسبات وبرامج حديثة (وادي السيليكون في أمريكا وبنجالور في الهند)، أو تجمع صناعة الأزياء والسيراميك (جنوب إيطاليا).
وقد يصنف التجمع حسب درجة التخصص في مستوى معين من سلسلة القيمة المضافة للصناعة، أو في تخصصه في سوق جغرافي معين، أو في شريحة معينة من الأسواق والعملاء. وكمثال على ذلك صناعة الأحذية، ففي شمال إيطاليا يوجد تجمع متخصص في صناعة الأحذية يركز على التصاميم والأسماء التجارية ويتمتع بمستوى عال من الأجور ويستهدف المستهلكين مرتفعي الدخل. وفي البرتغال هناك تجمع يعتمد على قصر دورة الإنتاج ومواكبة الموضة ويستهدف متوسطي الدخول في أوروبا، أما في الصين فإن التركيز يتم على كثافة الإنتاج في الأحذية منخفضة التكلفة والسعر.
وحسب نوعية الترابط هناك نوعان من الترابط النوع الأول رأسي، وفيه يتكون التجمع من شركة أو بضع شركات كبيرة، ويمدها عدد كبيرمن الشركات الأصغر بمدخلات الإنتاج وهي علاقة قائمة بين مشترين وبائعين كتجمعات صناعة السيارات. والنوع الثاني أفقي، وفيه يتكون التجمع من عدد كبير جداً من الشركات المتوسطة والصغيرة التي تنتج منتجات نهائية وتسوقها، وهي تشترك في التقنية وقوى العمل والموارد وربما الأسواق.

وقد قسمت Markusen التجمعات الصناعية حسب هيكلها إلى أربعة أنواع لكل منها نوعية مختلفة من العلاقات بين الشركات وسياسة مختلفة في رفع التنافسية، (جدول) وهي:

تجمعات مارشال: وهي المكونة من شركات محلية صغيرة ومتوسطة الحجم تتخصص في الصناعات المعتمدة على التكنولوجيا المتقدمة والحرفية العالية. ويكون التبادل التجاري بينها كبيراً، وتتعاون فيما بينها في مواجهة الصعوبات وتحظى بدعم حكومي كبير لتطوير تنافسيتها.

تجمعات المحور والأذرعة: وهي التي تسيطر عليها شركة أو عدة شركات كبيرة يخدمها عدد كبير من الشركات المتوسطة والصغيرة الموردة للمدخلات والخدمات، وقد يضم العديد من الشركات التي تستخدم منتجات الشركات الكبرى. وعلاقة التعاون هنا هي بين الشركات الكبرى والصغرى ولكنها مفقودة بين الشركات المتنافسة.

تجمعات منصات الفروع: وتتكون من فروع الشركات الدولية متعددة المصانع، وتتميز بضعف التبادل التجاري فيما بين هذه الفروع، كما أن عدد النشاطات والشركات المنبثقة عن هذه المصانع والمزودين بالمدخلات قليل.
تجمعات المراكز العامة وهي عبارة عن وجود لمقدمي الخدمات وموردي المدخلات حول مراكز النشاطات العامة الكبيرة في الدولة كالجامعات والقواعد العسكرية والمكاتب الحكومية. والعلاقة تقوم على علاقة البائع (الموردين) والمشتري (المراكز).
أما حسب الحجم فقد يكون التجمع صغيرا أو كبيرا حسب معايير الدراسة والتي قد تعتمد على حجم المبيعات أو الانتشار الجغرافي أو عدد الشركات أو نسبة إيجاد فرص العمل أو غيرها من المعايير. ومن حيث العدد تفترض منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) أن التجمع الصناعي يجب أن يحوي 100 منشأة على الأقل من المنشآت المتوسطة والصغيرة، ليصل إلى الحجم الحدي لمستوى الفاعلية (الديناميكية) الداخلية الذي يمكنه مقاومة أي صدمات خارجية أو ضغوط، كفقدان إحدى الشركات أو المؤسسات. وصغر حجم التجمع قد يكون له اثر سلبي يتمثل في إمكانية خسارة كل المنافع التي تم اكتسابها خلال تنميته كخسارة الشركات والموارد والعمالة الماهرة. وكلما كبر حجم التجمع الصناعي كان أكثر جذباً للعمالة المتخصصة والموردين وجميع المؤسسات والجهات التي يستقطبها التجمع. وفي دراسة قام بها معهد التنافسية في جامعة هارفارد لعيّنة من 382 تجمعا صناعياً وجد أن متوسط عدد الشركات يبلغ نحو 150 شركة، وأن 42 في المائة من التجمعات يقل فيها عدد الشركات عن 100 شركة ويتراوح في 14 في المائة من التجمعات بين 100-200 شركة، بينما يصل في 9 في المائة من التجمعات إلى 300 شركة، كما وجد أن نحو 25 في المائة من التجمعات يتجاوز عدد شركاتها 600 شركة. ومن أكبر التجمعات التي رصدت تجمع صناعة الملابس المحبوكة في إيطاليا والهند والتي يعمل في كل منهما نحو تسعة آلاف منشأة. وبدراسة عينة من 457 تجمعا صناعيا لتحديد عدد فرص العمل التي يمكن أن توجدها التجمعات الصناعية وجد أنها تبلغ في المتوسط نحو 15 ألف فرصة عمل، ويتوقف ذلك على حجم التجمع، إلا أن أكثر من 25 في المائة من التجمعات في هذه العينة أوجد أكثر من 30 ألف وظيفة. ووجد في حالات استثنائية أن أكبر عدد فرص عمل أوجده تجمع هو تجمع صناعة الحسابات والبرمجيات في وادي السليكون الذي يقدر بمليون فرصة عمل، وتجمع صناعة السيارات في ديترويت والذي أوجد 250 ألف فرصة.

الأكثر قراءة