"أرامكو" وتضارب المصالح

[email protected]

في مطلع شهر صفر الجاري نشرت جريدة "عكاظ" خبراً مقتضباً عن قيام شركة أرامكو السعودية بتوزيع استمارات على موظفيها للإفصاح عن النشاطات التجارية التي قد يزاولها موظفوها مع إرفاق نسخة من السجل التجاري وتراخيص العمل إذا كانت لديهم مشاريع أو شركات خاصة سواء داخل المملكة أو خارجها تحت مسمى "إقرار تعارض المصالح وأخلاقيات العمل وبيان الإفصاح". وكما كنت أحسب، أكدت لي مصادر مقربة من الشركة أن تلك الخطوة ليست جديدة، بل هي تقليد قديم تمارسه أرامكو السعودية منذ عدة عقود، وقد برهنت الأيام أهمية ذلك التقليد، أو السياسة إن شئت، في الحفاظ على سمعة واستقامة الشركة ومنسوبيها .
تلك السياسة لأخلاقيات العمل ترتكز على محورين ، أحدهما الصياغة الواضحة للمعايير والشروط، وثانيهما الرقابة الجادة وما تتطلبه من متابعة مستمرة للتأكد من التزام الجميع بنصوصها وبروحها. وبالرغم من أن أرامكو السعودية تضم أكثر من 50 ألف موظف وموظفة، إلا أن كل فرد من أولئك الموظفين يخضع لتلك الإجراءات مع إلزام ذوي المراكز الإشرافية العليا منهم بمستويات إفصاح أكثر صرامة من الآخرين، إذ إنه محظور عليهم امتلاك أو المشاركة في الأعمال التجارية بكل أشكالها وإن كانت بعيدة عن مشروعات الشركة ومشترياتها. بالطبع "أرامكو" كغيرها من الشركات تعيش في عالم متغير بوتيرة سريعة، ومن ثم لم تعد الشركة كما كانت عليه قبل سنوات قليلة مضت عندما اقتصر نشاطها على التنقيب، التكرير، والتصدير. إذ توسعت أعمالها أفقياً ورأسياً، كما اتسعت المناطق الجغرافية لتلك الأعمال من الصين وشرق آسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية مروراً بالقارة الأوروبية. ولو نظرنا إلى خريطة المملكة فقط لرأينا الانتشار الواسع لمشروعات "أرامكو" وحضورها في كل موقع تقريباً بينما كانت إلى عهد قريب في نظر الكثير ليست إلا شركة محلية مقرها المنطقة الشرقية.
ذلك التطور المهني في مسيرة أرامكو السعودية وما يصاحبه من بناء علاقات عمل وشراكات خارج المدار التقليدي لخبراتها المتراكمة يضعها أمام مواقف وأنماط جديدة من تضارب المصالح ما يدعو إلى مراجعة مستمرة لضوابط أخلاقيات العمل بحيث تواكب كل تلك المستجدات. أي أن ذلك الشق من الإدارة ليس تنظيماً جامداً بل منظومة ديناميكية متحركة تتفاعل مع بيئتها أخذاً وعطاءً، فلسفة وتطبيقاً، وهو ما تضطلع به لجنة مستقلة بمسمى "لجنة تضارب المصالح وأخلاقيات العمل" ترتبط بالإدارة العليا بشكل مباشر.
وقبل أن يسبقني القارئ لا بد من القول إن مدونة أخلاقيات العمل ليست حكراً على "أرامكو" وحدها، فهناك العديد من المؤسسات ولاسيما في القطاع الخاص لديها مدونات لحماية سمعتها وطمأنة الأطراف الأخرى من ملاك، مساهمين، وعملاء على حقوقهم ومصالحهم. وقد أسهمت هيئة السوق المالية، منذ أن طرحت قبل نحو عامين لائحة حوكمة الشركات، في زيادة عدد المنشآت التي شرعت في ترتيب أوضاعها كي تتماشى مع متطلبات تلك اللائحة وعلى رأسها تجفيف المنابع المحتملة لتضارب المصالح. غير أن تجربة "أرامكو" تكاد تقف وحدها دون شبيه بين الآخرين لعدة أسباب, منها العمق الزمني الطويل لتلك التجربة، حجمها، وديناميكية مراقبتها ومتابعتها، وهي أسباب تجعلها جديرة بالتقويم والإفادة منها في مؤسسات الدولة ضمن الجهود المبذولة لتحقيق مراكز متقدمة بين دول العالم في الشفافية والنزاهة وما يترتب على ذلك من بناء مصداقية أمام الآخرين تحفزهم للاستثمار في السوق السعودية وتوفير فرص عمل نحن في أمس الحاجة إليها.
إن السلوكيات الحميدة في المجتمعات وبالذات في أخلاقيات العمل تحتاج دوماً إلى قدوة، ونحن في حاجة إلى نماذج أخرى كثيرة بجانب أرامكو السعودية لإشاعة تلك الفضيلة على المستوى الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي