.. إنهم يقلقون جدة!
.. إنهم يقلقون جدة!
أدت الحرائق الضخمة التي تجتاح انبعاثاتها السامة سماء جدة الأسبوع الماضي إلى ارتفاع مستويات تلوث الهواء في أجزاء واسعة من أحياء المدينة بدرجة يخشى معها على صحة السكان, خاصة مع ارتفاع تلوث الهواء بمقادير عالية من الغازات.
وتعد هذه الحرائق الكارثة الأخطر التي تشهدها جدة بعد موجة من الحرائق في أكوام النفايات ومخلفات البناء التي تتصاعد أدخنتها في سماء المدينة من يوم إلى آخر, كان آخرها الحريق الذي استمر ثلاثة أيام في أقصى جنوب جدة.
ويعيش أكثر من مليوني شخص في جدة قلقا حقيقيا بسبب الأجواء الملوثة من جراء الانبعاثات الخطيرة لمردم النفايات العام الذي يضم مواد متنوعة من النفايات بما فيها مواد عضوية خطيرة, وتطور الوضع إلى أكبر من ذلك حيث تعرض سكان الأحياء المجاورة لحالات من الاختناق خاصة من يعانون مشكلات في التنفس.
وزادت خطورة الوضع بعد أن امتدت الانبعاثات السامة في سماء المدينة ووصلت إلى أقصى الجنوب والشمال والمناطق المجاورة لشاطئ البحر الأحمر, حيث تتلبد السماء بسحب سوداء من جراء انبعاثات الدخان, إضافة إلى الروائح الكريهة التي أصبحوا يستنشقونها داخل منازلهم.
وتوجد فرق الدفاع المدني بين الحين والآخر في محاولة لمكافحة مصدر الانبعاثات الناجم عن حرق النفايات في المردم العام لجدة بسبب ممارسات يقوم بها عمالة من الأفارقة منذ فترة طويلة, إلا أن الأيام الثلاثة الأخيرة شهدت تفاقما في الوضع أثار مخاوف سكان جدة خاصة المجاورين للمردم, وهو الأمر الذي دفع جهات حكومية إلى الوقوف على الوضع, حيث توجهت فرق الدفاع المدني والشرطة في محاولة لتدارك الوضع الذي يهدد صحة المواطنين.
ويؤكد أطباء أن الخطر يكمن في محتوى النفايات التي يتم إحراقها بطرق عشوائية حيث تحتوي على مواد عضوية خطيرة تؤدي إلى الإصابة بأمراض خطيرة, خاصة في حالة تحول الهواء من كونه غير صحي إلى مستوى خطر مع ارتفاع معدل الانبعاثات ووصولها عند مستويات تلوث الهواء بالجزئيات السامة تشكل خطرا بشكل خاص على الفئات الأكثر تعرضا للخطر كمرضى الربو والحساسية وكبار السن.
30 عاما من التلوث
منذ 30 عاما تم إنشاء المردم الحالي شرق الخط السريع ولم يراع فيه الامتداد السكاني والمشكلات التي يمكن أن تحدث ليشكل اليوم كارثة حقيقة بسبب عدم وجود حل مناسب كونه مردما لا يتوافر فيه أبسط المواصفات المعمول بها في المرادم التي تدار بطريقة علمية, وفي مدينة حضارية مثل جدة يوجد المردم البدائي الوحيد الذي جر سلبيات متعددة.
ويقع المردم الحالي في الجهة الشرقية من مدينة جدة على مسافة تراوح بين كيلو مترين إلى ثلاثة كيلو مترات, يقع إلى جواره عدد من البيوت العشوائية ومن أقرب الأحياء السكنية للمردم الأجواد الشرقي وحي المنار, ويرتفع المردم عن مستوى الأحياء السكنية بنحو 100 متر.
ممارسات الأفارقة محور القضية
يشكل الأفارقة، وغالبيتهم من الجنسيات التشادية والصومالية والسنغالية، العديد من المواقع داخل مرمى النفايات إلى ما يشبه المستعمرات الصغيرة وذلك لممارسة أعمال النبش بشكل مستمر في النفايات واستخراج بعض المواد والأدوات القديمة ليعيدوا بيعها بعد ذلك لبعض مصانع تدوير النفايات لقاء مبالغ مالية معينة بحسب نوع المواد ووزنها، وإن كان العديد من العاملين في هذا المجال من مخالفي نظام الإقامة ومجهولي الهوية إلا أن أعدادهم تزايدت في الآونة الأخيرة نظرا لبعد المرمى عن جولات الجهات المعنية بمتابعة المخالفين.
ويؤكد عمال الشركة المتعهدة أنهم يواجهون مشكلات كبيرة من الممارسات التي يقوم بها الأفارقة ومنها إجبارهم على التوقف عن طمر النفايات في الوقت المحدد حيث يطلبون التوقف حتى يتم فرز جميع المحتويات التي توجد في الشاحنات, ويوجد عدد كبير من هؤلاء الذين يسيطرون على كامل المردم ويصادرون ما يرونه مناسبا.
تجاهل التحذيرات الرسمية
على الرغم من التحذيرات التي أصدرتها لجنة حكومية عن الوضع السيئ لمردم النفايات في جدة إلا أن بطء الإجراءات وتجاهل التحذيرات كانا من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الوضع المتفاقم حاليا في منطقة المردم, حيث رفعت لجنة حكومية تضم ثلاث جهات تقارير إلى الجهات المسؤولة في منطقة مكة المكرمة بحجم المخاطر التي تسبب فيها مردم النفايات الحالي, وأوصت اللجنة بسرعة التدخل لاحتواء الأزمة التي تتعلق بصحة السكان.
من جانبه, قال حسين القحطاني المتحدث الرسمي في الرئاسة, إن المردم الحالي بدائي ويفتقر إلى الأنظمة الحديثة للتعامل مع النفايات, إذ لا تتوافر فيه أنظمة مخصصة لتصريف الغازات والانبعاثات الملوثة التي تصدر من المواد العضوية, مشيرا إلى ضرورة الانتقال إلى المردم الجديد بعد إجراء عمليات التأهيل البيئي المناسبة.
وقال إن الرئاسة دعت إلى الإسراع بالانتقال إلى الموقع الجديد الذي تم الانتهاء منه الذي تتوافر فيه المواصفات والشروط التي تنطبق على المرادم الصحية,وذلك فيما يخص التبطين والتهوية وعمليات الفرز بالشكل المطلوب وفقا لطرق عملية تضمن سلامة المنطقة من أي تأثيرات بيئية, وأضاف أن الرئاسة تنتظر دراسة تأهيل بيئي للمردم الجديد كونه الأكثر ملاءمة من الحالي الذي لا يحمل أي مقومات بيئية أو علمية ولا تنطبق علية الشروط المتعارف عليها في المرادم الصحية العالمية. مطالبا باتخاذ الإجراءات اللازمة لتلافي كل الإشكاليات التي تسببت فيما يعانيه سكان جدة وذلكم بمنع التجمعات غير النظامية بجانب المردم وفرز مناسب للمخلفات والاستفادة مما يمكن الاستفادة منه من تفاقم الآثار البيئة لمردم النفايات العام في جدة بسبب الزحف السكاني الذي أصبح قربيا جدا من الموقع, وهو الأمر الذي يشكل خطرا على صحة الإنسان من جراء انبعاث الغازات السامة من المردم الحالي.
شبابيك مغلقة منذ 7 سنوات
دفعت الأدخنة المتصاعدة من مرمى النفايات شرق جدة سكان الأحياء المجاورة له إلى التجمهر أمام مركز الدفاع المدني شرق جدة مطالبين بإيجاد حل لأزمتهم التي امتدت عدة سنوات ولم يروا سوى الوعود بإيجاد حل للأزمة.
وعبر عدد من الموطنين خلال حديثهم لـ "الاقتصادية" عن معاناتهم مع المشكلة منذ سنوات, حيث أشار محمد الغامدي أحد سكان الحي إلى أن الأدخنة تتصاعد باستمرار من المرمى نتيجة قيام المتخلفين الأفارقة بعمليات النبش في النفايات وإحراق إطارات السيارات القديمة لكي يستخرجوا الأسلاك المعدنية الموجودة داخلها, وتساعد الرياح على انتشار النيران داخل المرمى ودفع الدخان إلى جميع أحياء شرق جدة.
وأضاف أنه لا يستطيع فتح نوافذ منزله منذ أن سكنها قبل سبع سنوات لكون الدخان سبب مشكلات صحية لأبنائه, وقال إنه سبق أن نصحه أكثر من طبيب بالانتقال من مسكنه لخطورة موقعه على صحة أطفاله, خصوصا أنهم يعانون مرض الربو. وطالب الغامدي الأمانة بتنفيذ ما صرح به أمين جدة بأن المرمى سينتقل إلى موقعه الجديد بعد ثلاثة أشهر ومر أكثر من ستة أشهر على التصريح ولم نر أي بوادر في نقل المرمى.
وأرجع عدد من الأهالي هذه القضية إلى المشكلة المزمنة لمردم النفايات التي لم تجد حلا جذريا على الرغم من الشكاوى المتكررة من الأهالي, خاصة الذين يقطنون إلى جوار المردم الخطير, حيث تنبعث بشكل يومي سحب من الدخان الأسود الكثيف من جراء الحرائق التي يقف وراءها.
ويقول خالد المالكي منذ سنوات ونحن نعاني مشكلة تصاعد الدخان التي أدت إلى اختناقات تنفسية لأفراد العائلة خاصة الصغار والمصابين بالربو والحساسية, ما فاقم الوضع المعيشي, وتقدمنا بعدة شكاوى لأمانة جدة وبلدياتها الفرعية لكن لم نجد تجاوبا يذكر.
ووصف مواطنون من سكان شرق الخط السريع أنهم يتضررون بصفة مستمرة من جراء حرق المخلفات وأكوام النفايات وما ينتج عنها من أضرار صحية, إضافة إلى الروائح الكريهة المنبعثة من المردم, خاصة مع وجود تيارات هوائية عالية, ويضيف بندر أحد السكان أن الحرائق المستمرة تسبب في مرور سحب كثيفة من الدخان الأسود الذي يسبب الاختناق خاصة لمن لديهم أمراض صدرية, مشيرا إلى أن أغلب سكان شرق الخط السريع رفعوا شكاوى متكررة للجهات المسؤولة لسرعة التدخل ومعالجة الوضع, خاصة أن المنطقة تتطور بصفة ومستمرة ويرتفع عدد سكانها.
وأشار مجموعة من السكان إلى أن شرق الخط السريع بكل أحيائه (السامر، الأجواد، الربيع، التوفيق، المنار، والنخيل) يعانون منذ سنوات تلوثاً بيئياً خطيراً ونكاد نختنق بالغازات والأدخنة المنبعثة من المرمى الذي أنشئ لنظافة وصحة المدينة وسكانها.
إلغاء الأنشطة الرياضية والطابور الصباحي في المدارس المجاورة للمردم
ألغت مدارس شرق جدة الطابور الصباحي لطلاب المدارس، إضافة إلى إيقاف الأنشطة الرياضية ومنع الطلاب من التجول في الفناء بعد تزايد الروائح الكريهة والأدخنة التي تنبعث من مرمى النفايات القريب من الأحياء السكنية خوفا على سلامة الطلاب من الأمراض الصدرية. ويهدد مرمى النفايات الواقع شرق الخط السريع سلامة نحو ثمانية آلاف مواطن بسبب انبعاثاته الخطيرة الناجمة عن ممارسات العمالة السائبة، التي تحرق النفايات بعد نبشها واستخراج بعض المواد لإعادة بيعها في ظل غياب الأمانة.
السامر أكثر الأحياء تضررا
يعتبر حي السامر أكثر الأحياء في شرق الخط السريع تجرعا لجرعات الملوثات اليومية التي تحملها سحب الدخان المتصاعدة وروائح الإطارات إلا أن تزايد الحرائق وتكرارها رفعا حدة التلوث ليصل إلى أحياء الشرق التي يصل عدد سكانها إلى أكثر من 200 ألف نسمة
ويأتي من بين الأحياء التي طالت سكانها أضرار المردم أحياء: الربيع, المنار, الأجواد, والتوفيق إذ يعاني أغلبية السكان مراجعة عيادات الأمراض الصدرية, ولم يجدوا أمامهم سوى مطالبة الجهات المسؤولة بايجاد حل جذري لمعاناتهم.
ويجمع المواطنون على أن أمانة جدة تجاهلت مطالبهم والتحذيرات من الأخطار الناجمة عن محارق النفايات في انتظار المرمى الجديد, الذي يتم الانتقال إليه خلال ثلاثة أشهر على حد قول المسؤولين في الأمانة, وهو ما عده المواطنين وقتا طويلا يضاف إلى معاناتهم.
مخاطر صحية
من جانبه, قال الدكتور مأمون عبد السلام إخصائي أول أمراض باطنية, إن أغلب المراجعين عيادته يشتكون أمراض ضيق التنفس وحساسية الصدر "الربو", مشيرا إلى أن هذه الأعراض تأتي نتيجة تلوث الأجواء بالأبخرة والغازات الملوثة.
وأضاف مأمون أن هذه الأمراض في الغالب تنتشر في السكان الذين يقطنون إلى جوار مواقع انبعاثات ضارة مثل المصانع ومواقع التخلص من النفايات، محذرا في الوقت نفسه من السكن إلى جوار تلك المواقع لما تسببه من أضرار خطيرة على الصحة ومن ذلك زيادة نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الدم الذي يسبب تأخرا في النمو عند الأطفال ويؤثر في الذاكرة, خاصة المواد الطيارة المنبعثة من مخلفات البلاستيك التي تؤدي إلى أمراض السرطان.
فيما تحدث الدكتور علي عشقي أستاذ الدراسات البيئية في جامعة الملك عبد العزيز أن المشكلة في تلوث جدة ليست من مصدر واحد بل هناك مصدران كفيلان بتغيير جودة الهواء ومن أخطرها حرق النفايات خاصة أن من النفايات تعد نفايات صناعية حيث يدخل البلاستك في 80 في المائة منها, وبذلك تشكل خطورة على صحة الإنسان, حيث تطلق غازات تؤدي إلى الإصابة بالسرطان, كما أن حرق الإطارات ينتج غاز الديكسون المسبب السرطان, ومما يزيد من خطر تأثيرات الغازات وجودها في الأجواء خاصة مع ضعف التيار الهوائي في جدة إذا تحتاج إلى سرعة هواء تقلل من خطورتها وتركيزها في الأجواء, مشيرا إلى المصدر الثاني الذي تعانيه جدة الصرف الصحي وخلط المياه في البحر, الأمر الذي أدى إلى انبعاثات خطيرة وغازات سامة مثل كبريتد الهيدوجين المسببب السرطان وغاز الميثان, وهذه تشكل خطورة بالغة على صحة الإنسان حسب التقارير الطبية.