الجامعات البحثية وآفاق المستقبل
الجامعات البحثية وآفاق المستقبل
إن الحراك والتطور الملحوظ في بعض الجامعات السعودية ووضع حجر الأساس لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، يبشر بفترة ذهبية للمراجعة والتطوير في التعاليم العالي في السعودية. بل إن التطور في التعليم العالي والتوسع فيه وإطلاق مشاريعه التخطيطية أصبح أمرا ملحوظا ومشهودا خلال السنوات الأربع الماضية.
عندما نتحدث عن الجامعات، تبرز العملية التعليمية في المجالات التخصصية المختلفة كمهمة رئيسية على هذه المؤسسات القيام بها من أجل تأهيل خريجيها بالمعارف والمهارات اللازمة للعمل كمتخصصين في هذه المجالات. ولا شك أن هذه المهمة ضرورة من ضرورات الحياة الحديثة، فالتأهيل المعرفي للإنسان، وتوظيف المؤهلين، يعود على المجتمع بالنفع والتقدم والتنمية. لكنه لا بُد من القول إن هذه العملية التعليمية، وما تتضمنه من تأهيل معرفي للإنسان، ليست المهمة الوحيدة للجامعات، بل هناك مهمة أخرى، لا تقل أهمية عنها، بل تُعتبر مُكملة لها ومُتفاعلة معها، ألا وهي مهمة البحث العلمي وتوليد المعارف الجديدة.
وللبحث العلمي الجامعي وتوليد المعارف الجديدة، في المجالات المُختلفة، محاور رئيسية ثلاثة: محور يرتبط بالمعارف والنظريات "الأساسية"، ومحور يتعلق بالمعارف "التطبيقية" العملية، ثم محور يهتم بالاستجابة للقضايا المعرفية الطارئة وتقديم "المشورة" بشأنها. فالبحث العلمي في المعارف الأساسية يُسهم في التراكم المعرفي الإنساني من ناحية، كما يؤسس للبحوث التطبيقية المستقبلية من ناحية ثانية. وعلى ذلك فإن له بُعداً دولياً إنسانياً من جهة، وبُعداً تخطيطياً ينظر إلى المستقبل ويستعد له من جهة أخرى.
ويُقدم البحث العلمي التطبيقي، في الجامعات، معارف جديدة يُمكن توظيفها والاستفادة منها. فقد يُعطي مُنتجاً جديداً أو مُتجدداً، أو قد يستنبط خدمة جديدة أو مُتجددة، بحيث يُحقق ذلك المُنتج أو تلك الخدمة قيمة مُتميزة، في السوق المحلية أو الدولية، تؤدي إلى توظيف اليد العاملة، وجني الأرباح، وتعزيز التنمية وتحقيق استدامتها. ومن خلال خبرة توليد المعرفة عبر البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية، تستطيع الجامعات أن تستجيب لمتطلبات المؤسسات المعرفية الصناعية منها والخدمية، وأن تقدم إليها المشورة التي تحتاج إليها وتحل مشاكلها وتزيد من عطائها.
وبالإضافة إلى ما سبق، وعبر البحث العلمي، بمحاوره سابقة الذكر، تُقدم الجامعات للمجتمع نُخبة من العلماء والباحثين، من خريجي برامجها الأكاديمية البحثية، الذين يستطيعون العمل في شتى قطاعات المجتمع، ويساعدون على نجاح هذه القطاعات وعلى تميزها.
ولا شك أيضاً أن ازدهار البحوث في الجامعات يعود بالنفع على العملية التعليمية ذاتها، التي يُمكن أن تكتسب الطابع البحثي، لتصبح أكثر عمقاً وتأثيراً. فالتعليم في هذا الإطار يُصبح مُتفاعلاً مع التجدد المعرفي، متلقياً منه ورافدا له في آن معا. ولعله من المفيد تذكر مقولة: "إذا أعطيتني المعلومة، فسآخذها، لكنني قد أنساها؛ وإذا أوضحت لي المعلومة وناقشتني فيها، فلعلي أتذكرها؛ ولكن إذا سمحت لي بالتعامل مع المعلومة والبحث فيها، فسأتمكن من فهمها وترسيخها، وربما تطويرها أيضاً". فالتعامل مع تقديم المعلومة بمنظار بحثي، وليس طرحها فقط، يحمل مبدأ التدريس الفعّال، المبني على البحث العلمي.
إدراكاً لما سبق، وفي المناخ المعرفي التنافسي الذي يشهده العالم، تتجه الجامعات بصورة غير مسبوقة نحو تعزيز دورها في البحث العلمي والعطاء المعرفي. ولا يشمل ذلك الجامعات التي تسعى إلى الارتقاء بسمعتها فقط، بل يتضمن أيضاً أهم الجامعات العالمية. ومن أمثلة ما يجري في العالم، في هذا الإطار إنشاء "رابطة الجامعات الأوروبية البحثية LERU" عام 2002 من "اثنتي عشرة جامعة"، من أهم الجامعات في الدول الأوروبية المختلفة، ثم انضمام "ثماني جامعات" أوروبية أخرى إلى هذه الرابطة عام 2006.
وتُعّرف رابطة الجامعات الأوربية هذه بنفسها وما تسعى إلى تحقيقه بالقول: "إن رابطة الجامعات الأوروبية البحثية هي تجمع تعاوني فعّال بين مؤسسات معروفة بالتزامها بتقديم بحوث قادرة على المنافسة على مستوى العالم، مقرونة بجودة تعليمية عالية؛ إن غاية هذه الرابطة ببساطة هي وضع الجامعات الأوروبية في مقدمة جامعات العالم بحثياً وتعليمياً".
ومن أمثلة التوجه نحو تعزيز البحث العلمي في الجامعات أيضاً ما طرحه مدير جامعة كورنيل الأمريكية المتميزة السابق في كتابه "دور الجامعة الأمريكية: صناعة المستقبل" الذي صدر عام 2001، أي في مطلع الألفية الثالثة. في هذا الكتاب، يبين المؤلف أهمية الجامعة البحثية ودورها الأساسي في المجتمع، ويُعرفها على أنها "مؤسسة ذات حضور واضح، وتحمل الصفتين التاليتين: تعمل بفاعلية في البحث العلمي، ولها نظام علمي ونشاطات مشتركة تقود إلى الدكتوراه؛ وتتمتع أيضاً بقدرة كافية على المنافسة في جودة ما تُقدمه، بما يُؤدي إلى اجتذاب الطلبة، والحصول على منح بحثية".
يُعتبر البحث العلمي والعطاء المعرفي من أبرز ما يُميز الجامعات، وما يدفعها إلى التقدم على الجامعات الأخرى؛ حيث يؤدي ذلك إلى اجتذاب الطلبة المتميزين من ناحية، وإلى الحصول على دعم خارجي أكبر من ناحية ثانية. وسوف نستعرض فيما يلي تصنيفاً معروفاً للجامعات نبين فيه نظرة هذا التصنيف إلى الجامعات البحثية، ثُم نُقدم تعريفاً حديثاً يُحدد العوامل التي تجعل الجامعة جامعة بحثية، ونُعطي أخيراً بعض الملاحظات حول هذا الموضوع المهم.
تُصنف مؤسسات التعليم العالي، تبعاً لتصنيف "كارنيجي Carnegie" الأمريكي المعروف إلى أربعة أصناف رئيسة: الجامعات البحثية المانحة للدكتوراه، بالإضافة بالطبع إلى البكالوريوس والماجستير؛ والجامعات المانحة للماجستير، بالإضافة إلى البكالوريوس؛ ثم الجامعات والكليات المانحة للبكالوريوس، إضافة إلى درجات أخرى مُساعدة تقل عن البكالوريوس؛ وكذلك الكليات المانحة للدرجات المساعدة التي تقل عن البكالوريوس، والتي تمنح البكالوريوس أيضاً، بنسبة محدودة، في بعض برامجها الخاصة.
ويُميز التصنيف بين مستويين من الجامعات البحثية. ويعتبر أن جامعات المستوى الأول تُركز بشكل "مكثف وواسع Extensive" على البحث العلمي؛ ونتيجة لذلك فهي تمنح "50 درجة دكتوراه" سنوياً على الأقل، في مجالات يبلغ عددها "15 مجالاً" أو أكثر؛ إضافة بالطبع إلى تقديمها لبرامج بكالوريوس وماجستير متميزة.
أما المستوى الثاني من مستويات الجامعات البحثية، في "تصنيف كارنيجي" فيعتبر أن هذه الجامعات تتميز بالاهتمام بالبحث العلمي، بشكل "مكثف Intensive"؛ بمعنى أنها تمنح "10 درجات دكتوراه" سنوياً على الأقل، في مجالات يبلغ عددها "3 مجالات أو أكثر"، أو تمنح "20" درجة دكتوراه سنوياً على الأقل في مجال واحد أو أكثر، إضافة أيضاً إلى برامج البكالوريوس والماجستير.
ويُلاحظ أن "تصنيف كارنيجي" للجامعات البحثية، يرتبط ببرامج الدكتوراه وما تُقدمه من خريجين سنوياً في مجالات مُتعددة. ولا غرابة في ذلك، فبحوث درجة الدكتوراه بحوث تسعى إلى تقديم عطاء معرفي متميز يقوم بها طلبة أثبتوا تميزهم الدراسي، يُوجههم أكاديميون اكتسبوا خبرات بحثية على مدى طويل. وغالباً ما تتمتع بحوث الدكتوراه بدعم خارجي يستفيد منه الطلبة والأساتذة، إضافة إلى مختبرات الجامعة.
وهناك تعريف أكثر استفاضة للجامعات البحثية قدمه أحد الأكاديميين الأوروبيين، ونشرته "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD". ويُحدد هذا التعريف ست صفات رئيسية للجامعة البحثية. وتشمل هذه الصفات ما يلي: "أن تقوم الجامعة ببحوث أساسية وبحوث تطبيقية؛ وأن يكون التدريس فيها مبنيا على البحث العلمي؛ وأن تتمتع بنظام أكاديمي مُتكامل؛ وأن يكون لديها نسبة مرتفعة من برامج الدراسات العليا ذات الطابع البحثي؛ وأن تأتي نسبة مرتفعة من دخلها من مصادر خارجية؛ وأن تتمتع ببُعدٍ دولي".
ويُوضح هذا التعريف أن الجامعة البحثية لا تهتم فقط بالبحوث التطبيقية ذات الفوائد المباشرة، بل تهتم أيضاً بالبحوث الأساسية التي تُسهم في زيادة المعارف الإنسانية. وتفتخر الجامعات بحصول بعض منسوبيها على جوائز نوبل العلمية التي تُثبت جدارتها في البحوث الأساسية؛ كما تفتخر أيضاً بارتباط بحوثها بالشركات الخاصة ونجاحها في تقديم بحوث قابلة للتطبيق تُفيد هذه الشركات في تقديم منتجات وخدمات جديدة. ويُبرز التعريف مسألة تمتع الجامعة بسمعة ومكانة بحثية مرموقة تُؤدي إلى حصولها على دعم خارجي يُمثل نسبة مرتفعة من دخلها.
ويُؤكد التعريف على ما ورد في "تصنيف كارنيجي" من ضرورة وجود برامج للدراسات العليا ذات طابع بحثي. ويُركز التعريف أيضاً على قضية التفاعل بين البحث العلمي والعملية التعليمية، وعلى ضرورة أن يكون التدريس في الجامعات البحثية مبنياً على الأسلوب البحثي والمعارف البحثية المتجددة. ولا ينسى التعريف موضوع الإدارة، حيث يبين في هذا الإطار ضرورة أن يكون للجامعة البحثية نظاماً أكاديمياً مُتكاملاً.
ويتحدث التعريف عن ضرورة وجود بُعد دولي للجامعة البحثية. ويتمثل هذا البُعد في البيئة الجامعية من حيث وجود طلبة وأساتذة من مُختلف أنحاء العالم، ومن حيث وجود تعاون وتوسع خارجي واتفاقيات شراكة مع الجامعات والمؤسسات المعرفية في مُختلف أنحاء العالم. وتجدر الإشارة هنا، كمثال على ذلك، إلى أن جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة أقامت خلال السنوات السابقة فرعاً لها في الصين .وهناك جامعات عالمية أخرى كثيرة تسعى إلى التوسع أو الشراكة مع جامعات أخرى في مُختلف أنحاء العالم. ومن الجامعات المتميزة، في إطار الشراكة مع الجامعات الأخرى في شتى دول العالم، "جامعة دارمستادت التقنية "TU-Darmstadt الألمانية.
ولعلنا بالإشارة إلى ما سبق نتساءل أخيراً، أين موقع جامعاتنا من صفات الجامعات البحثية؟! إن التنافس المعرفي الذي يشهده العالم، واستجابة الجامعات في البلدان المختلفة لهذا التنافس ودخولها، بجسارة وتصميم غير مسبوق، حلبة البحث العلمي والعطاء المعرفي، يدعونا نحن أيضاً إلى الاستجابة. فنحن نريد تطوير البحث العلمي في جامعاتنا، بل نسعى إلى أن يكون لنا جامعات وطنية بحثية حقيقية، قادرة على المنافسة على مستوى العالم. نريد تجمعات جامعية بحثية على جميع المستويات: على مستوى المملكة، وعلى المستويين العربي والإسلامي، بل وعلى مستوى العالم بأسره، من أجل أن يكون لنا مكانة معرفية في هذا العالم، ومن أجل تحقيق التنمية وتعزيز استدامتها.
لا شك أن هناك بعض التحديات، كما أن هناك فرصا ثمينة، بالإضافة إلى وجود ثغرات كثيرة، وعوامل قوة لا بأس بها. والسبيل إلى التطوير هو استغلال الفرص واستغلال نقاط القوة على أفضل وجه مُمكن وردم الثغرات وحل مشاكلها، وبالإرادة والعمل في هذا الاتجاه سيكون لنا أكثر من جامعة بحثية مرموقة نفتخر بها في المستقبل القريب بإذن الله.