شعرنا المحكي إلى أين؟
لا أريد بهذه الكتابة أن أستفز أحدا من كتّاب شعرنا المحكي (الشعبي), لكنني أقدم فيما أكتب تساؤلات بقيت تحيرني منذ مدة بخصوص هذه الشاعرية، ولعل أهمها جدوى ما يقدمه الشعراء الآن في مقابل ما قدمه جيل مضى, أعني بالجدوى تلك التاريخية والوثائقية التي كان يسجلها نمط معين ومحدد من هذه الشاعرية في نماذج تعتبر قديمة إذا قيست بتجارب هذا الجيل، ربما لأن دخولنا في عولمة ما وداخل سياقات حياتية جديدة وأفكار يتبناها الجيل استطاعت أن تدفع بنا عبر شعراء استطاعوا أن يقنعونا بالصورة الجديدة اللامرتبطة بشيء محدد، لكن هل تبقى لدى شعراء شعرنا المحكي شيء آخر غير ذلك المضمون الخطابي المباشر والتقوقع داخل عناوين مفادها "لوعة الفراق، الغياب, الحنين, والشوق".. إلى آخره من هذه المنظومة التي لا تنتهي، وربما يندر أن نجد عند شاعر معين صفة أخرى يقوم عليها نصه ليؤسس ويخترق هذه الأجواء, لا أستطيع أن أدخل في مقارنة مع آداب أخرى تكتب بقلم "فصيح" يحمل لغته, فهذا ليس منطقيا وغير مقبول, لكني أقول إن الشاعرية تنطلق الآن في العالم إلى شيء يفتقده شعرنا المحكي، وهو الأفق الإنساني الشامل والخطاب اليومي وغير المؤدلج, توقفت تجربة من أقرأهم في شعرنا الشعبي عند حدود الرومانتيكي الوصفي ولم تتجاوزه، كانت المرأة الهاجس الوحيد في ذلك ولعل فن الغناء أثر جدا في تقبل هذا النوع وانجرار الكثير خلف هذه المعزوفة, حتى غدت النصوص متشابهة واللغة واحدة وليس ثمة تميز لكاتب إلا في نص أو نصين، ولعلي لا أستثني أحدا من جيلنا الجديد في المشهد العربي، مع أني قليل الاطلاع على نماذجه.
هناك ثمة تطور ملحوظ في الشعرية المحكية، في مصر مثلا هناك تقدم رائع وقصائد لا تقارن بما نقدم، وهذه حقيقة برغم سقوط الشعر الفصيح هناك, لصالح مناطق أخرى, في المغرب العربي ثمة شعر محكي يعالج مشكلات اجتماعية كالفقر والزواج والتطرف الديني, ثمة منطقة تخلى عنها الشاعر وبدا الشاعر هناك غير مهتم بذاته ولا تصوير أحاسيسه، كما هو شائع لدى شعرائنا الكرام، إنما هو صورة لكاتب بعيد عن النص ومنفصل عنه تماما أي أنه يصلح لأن يقرأ عالميا، فهو يحاكي الجميع وينقل مشاعر الآخرين باعتبار موت المؤلف مثلا كما يعبر "جيرار جينيت" وآخرون ..
علينا أن نأخذ بشعرنا المحكي إلى مناطقه الجديدة، إلى الحميمي واليومي والمفاجئ، أو أن نقلل من تكاثرهم المخيف نسبياً, حتى لا نفاجأ بشعر يموت وغير قادر على التنفس، وبشاعر لا يسجل شيئا سوى هامش على الهامش وتنويعات من نصوص عاطفية فقط، لا تمت لزمننا زمن الجينز والهامبورغر والقمصان البرتقالية، والكيبورد والإنترنت بصلة، لا أستطيع في نهاية مقالي استشراف شيء بشأن مستقبل الشعر المحكي، ربما لأن قناعات البعض ظلت ثابتة حول جدوى ما يقدمه الشعر المحكي اليوم،
أستثني أنه ظل رافدا قويا لفن الغناء والطرب، وهذه تسجل في كفته، وعذره الوحيد للبقاء.