"حلويات بغداد" تقهر الظروف وتجمع المحبين على موائدها
رغم أن شهر رمضان في العراق فقد نكهته لدى البعض فان المجتمع البغدادي ما زال يتمسك بعادات وطقوس راسخة في هذا الشهر الذي يستعد له أصحاب المحال الكبرى المتخصصة في صناعة وبيع الحلويات الرمضانية. وكما هو مألوف كل عام بدأت محال الحلويات في بغداد تشهد حركة دؤوبة قبل حلول الشهر المبارك حيث تلاقي أصناف معينة من الحلويات إقبالا كبيرا لدى العراقيين.
ويرى أبو حيدر احد أشهر صانعي الحلويات في بغداد، أن وظيفته تتطلب تحضيرا مبكرا بتوفير المواد الضرورية لصناعة الحلويات من الدقيق والسكر والزيت والجوز والفستق واللوز بكميات كبيرة لكي يتمكن من احتواء الإقبال الشديد على محله كل عام وتلبية متطلبات زبائنه. ومن أنواع الحلويات التي يحرص العراقيون على إحضارها يوميا إلى منازلهم في رمضان "الزلابية" و"البقلاوة" و"القطايف" و"البرمة" وأصناف أخرى عديدة، كما شهدت محال بيع هذه الحلويات ظهور أنواع جديدة مثل "زنود الست" في الأعوام الأخيرة.
ويقول أبو حيدر (60 عاما) وهو يدير محلا كبيرا يشهد ازدحاما يوميا "لشهر رمضان نسق متفرد لدينا في العراق على صعيد الاهتمام، قبل قدومه بأسابيع وكلما يقترب ترتفع درجة الحركة في كل مكان يتصل بطبيعة الطقوس الرمضانية ومنها صناعة الحلويات الخاصة بهذا الشهر". ويضيف "من هذه الطقوس المحببة لدى العراقيين الإقبال على محال بيع الحلويات الشهيرة في الشهر حيث يحرص الناس على شرائها يوميا لكونها تشكل مائدة يستانسون بها خلال السهرات الرمضانية مما يجعلنا نستنفر جهودنا ونجهز المواد اللازمة لصناعة الحلويات في رمضان". ويشير هذا الرجل الذي أمضى في هذه الحرفة أكثر من ثلاثين عاما "في السنوات السابقة كانت المسابقات الرمضانية الشعبية تقام في جميع مناطق العاصمة سواء في الكرخ أو الرصافة حيث يجتمع المتسابقون، القادمون من مناطق بغدادية عتيقة، في المقاهي للاشتراك في مسابقة المحيبس الشهيرة بينما يقدم منظمو المسابقة الحلويات إلى الحاضرين الذين يصل عددهم إلى المئات، وهذا يجعل عملنا متواصلا في الشهر". وتابع "أما الآن فقد اختلف الأمر واختفت هذه المسابقة الشعبية نتيجة الأوضاع الأمنية السائدة وتعذر على العراقيين إقامتها ما جعل عملنا يعتمد على حضور الزبائن فقط في هذا الشهر". ولعبة المحيبس المشتق اسمها من المحبس (الخاتم) لعبة جماعية شعبية تمارس في الأحياء والمقاهي الشعبية منذ مئات السنين ويتنافس فيها فريقان يمثل في العادة كل فريق حارة أو محلة أو منطقة ويضم أكثر من عشرة لاعبين ويصل أحيانا إلى المئات. وفي هذه اللعبة يخبئ أحد الفريقين الخاتم في يد أحد لاعبيه في حين يجب على الفريق الخصم أن يحزر عبر التفرس في الوجوه وملاحظة ردات فعل اللاعبين أين هو المحبس.
وكانت المحال المتخصصة في صناعة وبيع الحلويات الرمضانية تبقي أبوابها مفتوحة حتى ساعات متأخرة من الليل, خصوصا تلك التي تنتشر في مناطق بغداد القديمة كالفضل والصدرية والأعظمية والكاظمية والكرادة.
وكانت تنتشر أيضا في هذه المناطق المقاهي التي تبقى مفتوحة حتى وقت السحور ويجتمع فيها أبناء هذه الأحياء لتنظيم المسابقات الرمضانية المعروفة مثل "المحيبس" وكان منظمو المسابقات الشعبية يقدمون إلى المشاركين والجمهور الحلويات. لكن هذه المحال والمقاهي بدأت تنحسر بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق في التسعينيات من القرن الماضي والذي أدى إلى ارتفاع أسعار المواد اللازمة لهذه الصناعة وانخفاض الدخل الشهري لأغلب العراقيين. وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 انتعشت محال صناعة وبيع الحلويات مجددا لتوافر المواد اللازمة لصناعتها من جهة وقدرة العراقيين على التبضع واتسعت المحال وعادت في جميع مناطق العاصمة. لكن المحال والمقاهي بدأت تقفل أبوابها بسبب تردي الأوضاع الأمنية واقتصرت الجلسات الرمضانية على عدد محدود من المقاهي تفضل مغادرة الزبائن في وقت مبكر.
وعرفت بغداد أسماء شهيرة من معلمي صناعة وبيع الحلويات أبرزهم "جواد الشكرجي" و"باقر الشكرجي" و"فرج نعوش" و"السيد" وانتشرت محال هؤلاء في جميع مناطق بغداد في قسميها الكرخ والرصافة قبل أن تنحسر خلال الأعوام الأخيرة بسبب الأوضاع الأمنية .