قرار تسريح الجيش العراقي بين المبررات والاعتراضات والنتائج
عندما قرر بول بريمر – أخطر رجال الاحتلال الأمريكي للعراق تأثيرا في تطور الأحداث – أن يسرح الجيش العراقي برر ذلك بأن ذلك الجيش هو الذي مكّن صدام حسين من قمع الشيعة والأكراد وغزو الكويت وتهديد إسرائيل، ونظرا لأن العسكريين يعملون في الخدمة المباشرة للرئيس فإن الشيعة والأكراد احتضنوا الفكرة وزينوها لبريمر. ويقول بريمر في مذكراته "وفي اللقاءات الأولى مع قادة الأكراد جلال طالباني ومسعود برازاني أكد الاثنان أن الأكراد لا يؤيدون ولن يقبلوا أي صيغة تعيد تشكيل وتسليح وحدات الجيش العراقي الذي خدم تحت قيادة صدام حسين".
وقد يكون هناك درجة من الصدق في هذا القول، ولكن بريمر نفسه كان من الممكن أن يذكر الأكراد بأن لديهم البشمرجا وهو جيش بكل ما تعنيه الكلمة أو على الأقل هي ميلشيا مسلحة الهدف منها الحفاظ على أمن الشمال. ومن ثم فإن العراق بحاجة إلى جيش يحمي الوسط والجنوب. وكان بوسع بريمر أن يؤسس قوة "بشمرجا" يعاد تشكيلها في إطار بناء أمني بحيث يصبح هناك جيش فيدرالي إلى جانب الوحدات الإقليمية والمحلية. وهو ما تحقق بالفعل في عام 2007. وقد صرح جلال طالباني الذي أصبح رئيسا للجمهورية عام 2006، وكان وقت تسريح الجيش رئيسا للاتحاد الوطني الكردستاني، بأن تسريح الجيش كان قرارا سليما وحكيما ووجه ضربة إلى جذور العسكرية القومية التي ابتلي بها العراق حتى من قبل تولي الرئيس صدام حسين السلطة. وقد اصطبغ تاريخ العسكرية العراقية بمزيج من العسكرية والقومية العربية وبصفة خاصة أثناء الوجود البريطاني في العراق. وقد زادت الرابطة بين القومية والعسكرية مع زيادة التدخل الأجنبي في شؤون العراق، وهذا يعني أن التدخل العسكري الأمريكي، والذي أصبح احتلالا شاملا ثم تسريح الجيش سيؤديان حتما إلى زيادة النزعة العسكرية ويشعلان نيران القومية العربية التي خبت كثيرا في عراق ما بعد الحرب، وهو ما يكرهه الطالباني كثيرا.
وكتب بريمر – ونحن نعود إليه كثيرا باعتباره صاحب القرار ومنفذه – أيضا أن شيعة العراق عارضوا الكيان العسكري وطالبوا بهدم الجيش، وقال بالحرف الواحد "كان الشعور المعادي للجيش لدى الشيعة أكبر وأعنف، فقد تحدثوا عن المذابح التي قام بها الجيش العراقي ضدهم بعد حرب الخليج الذي تبعه تمرد شيعي بتشجيع أمريكي وأعرب الكثير من الشيعة عن ضيقهم بالولايات المتحدة التي لم تنقذهم من رد فعل الجيش ضدهم".
ومن الواضح أن بريمر يربط بين النظام العراقي وبين الجيش، غير أن الجيش كان كيانا قائما قبل وصول صدام للحكم سنة 1968. وقد دأب أعداء صدام على تسمية الجيش العراقي بجيش صدام كنوع من المصطلحات الإعلامية المضادة لتسفيه الرجل والجيش معا. ولم ينجح بريمر في شرح الفروق بين الجيش وفدائيي صدام وقوات الأمن البعثية والحرس الجمهوري والجيش الشعبي والوحدات العسكرية الملحقة بأجهزة الاستخبارات، ولكن تعبير الجيش العراقي يطلق على هذا الكيان الذي تأسس سنة 1921. وكان كل من الجيش والبحرية وسلاح الجو يتبعون وزارة الدفاع، على عكس الحرس الجمهوري الذي كان تابعا للرئاسة مباشرة. وكان لجهل الأمريكيين في التعامل مع هذه الكيانات المختلفة آثاره المدمرة على مجرى الأحداث فيما بعد، ذلك أن قرار تسريح الجيش كشف حجم جهل بريمر بالتوترات الداخلية فيما بين الكيانات العسكرية العراقية المختلفة.
ويقتضي الإنصاف أن نذكر أن كراهية الشيعة للجيش لم تكن جماعية، ذلك أن الكثيرين من الشيعة كان ولاؤهم للجيش وللنظام، بل وشاركوا في قمع التمرد الذي وقع في الجنوب باعتباره مؤامرة أمريكية وليس ثورة شيعية. وما كان يمكن لحكومة البعث أن تستمر في الحكم لتلك السنوات الطويلة دون ولاء شيعي وكردي ظهر في مشاركة هؤلاء في دخول الحرب ضد أبناء جلدتهم ومذهبهم.
وبينما كان السنة يمثلون السلطة والقيادة في الجيش العراقي عبر التاريخ، إلا أن هناك من القادة من كان يمثل الشيعة والأكراد، ومنهم سعدي عباس الجبوري (شيعي)، ورشيد حسين التكريتي (كردي)، وكانا من أهم القادة الذين بقوا على ولائهم لصدام حسين أثناء حربه مع إيران. فضلا عن قادة من التركمان والمسيحيين. وفي معرض تبريره لقراره الذي أثبتت الأيام خيبته وفشله قال بريمر إنه كان يحاول إرضاء الشيعة والأكراد، ولكنه كسب عداء السنة. فقد استنتج بريمر أن معظم قادة صدام كانوا من السنة ولكنه نسي أو تناسى أن معظم الانقلابات التي وقعت ضد صدام كانت من ضباط من السنة تم إعدامهم، وعدد من تم إعدامهم من السنة يفوق كثيرا أعداد الشيعة والأكراد في هذا المجال.
وقد أدى تسريح الجيش إلى زيادة حالة الفوضى والسلب والنهب التي سادت عقب انصهار الجيش في الشعب وخروجه من المعركة، مما فتح الباب تماما للأمريكيين لاحتلال البلاد. ولا نزعم أن وجود الجيش كان سيمنع تلك الفوضى تماما، ولكن كان بوسعه الحد منها. ومما لا شك أن تسريح الجيش قد فجر حالة الغضب لدى الشعب العراقي الذي لم يكف عن مهاجمة المحتل معنويا وإعلاميا وفعليا وعسكريا. وقد عبر حازم الشعلان وزير الدفاع العراقي السابق, وأحد الحلفاء المقربين من الأمريكيين عن ذلك بقوله "إن مشكلات الفوضى والسلوك الهمجي كان بالإمكان تلافيها، ولكن تسريح الجيش فتح الباب أمام المجرمين ليشيدوا أوكارا للجريمة والفساد والخديعة". وقد أدلى الشعلان بهذه التصريحات لقناة الشرقية العراقية، والتي وصفها البعض بأنها قناة متعاطفة مع البعث العراقي. لقد تعمق في وجدان العراقيين أن الولايات المتحدة دخلت بشعار التحرير لتحقق احتلالا مليئا بالكوابيس.
واستطرد بريمر يدافع عن قراره بحل الجيش عندما قال: "إن كل جيش بحاجة إلى ثكنات وقواعد ومعدات، ولكن مع اختفاء عناصر المقاومة العراقية بعد هزيمة صدام، تم نسف الثكنات والقواعد، بل وتم تجريدها من كل شيء، بدءا من الأسلحة إلى أدوات الحمامات والأسلاك الكهربائية، بل وتم نهب الحجارة التي بنيت بها تلك القواعد والثكنات. والشيء نفسه حدث مع الوزارات العراقية المختلفة. وفشل الأمريكيون في واشنطن في إدراك أنه رغم دمار كل شيء فإن الجيش العراقي يبقى رمزا للعزة العراقية وضياعه انتهاك شديد للشعور العراقي بالذات.
ولا ننسى أنه على امتداد الخمسين عاما الماضية منذ انقلاب عبد الكريم القاسم ثم عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف ثم انقلاب البعث عليهم أن الشعب العراقي مر بأوقات صعبة بلغت ذروتها في حرب مع إيران استمرت ثماني سنوات، وحرب الخليج سنة 1991 ثم شهد عقدا من العقوبات الاقتصادية ثم حرب سنة 2003 ثم فوضى الاحتلال. وكان الجيش العراقي المؤسسة الأقدر دائما على حفظ السلام والأمن الداخلي. ولذلك فإن تسريحه أضاف محنة جديدة لهذا الشعب المبتلى. ومن هنا فإن الوضع المعنوي الآن يمثل صراعا بين محتل يدعي أنه سيصنع مستقبلا وشعب مغلوب على أمره يحن لماضيه.
وكما قال أحد قادة المارينز "عندما وصلت إلى الحدود الكويتية أبلغني أحد أفراد القيادة العليا أنني سأنفذ مهمة لإنقاذ الأمريكيين من بطش صدام الذي ينوي قتل الأمريكيين بأسلحة الدمار الشامل. وعندما دخلت إلى العراق كنت أبحث في أعشاش الطيور وأدراج المكاتب عن أي شيء يفيد بوجود هذه الأسلحة ولم أجدها. وعندما صدر لي التكليف بحراسة وزارة النفط والاهتمام بتلك المهمة عرفت تماما سبب الحرب ولماذا جئنا".
مثل هذه التصريحات أصبحت تملأ الصحف والكتب. ولذلك فقد جعل إياد علاوي, أحد رؤساء الوزارات التي زرعها الأمريكيون (ثم غضبوا عليه بعد ذلك) شعار حملته الانتخابية في كانون الأول (ديسمبر) 2005، وبصفته رئيسا لقائمة تآلف المجموعة العراقية الوطنية "إعادة كرامة الجيش العراقي الذي وصفه علاوي بأنه ركن ركين في تاريخ الأمة العراقية، وقال مخاطبا عددا من ضباط الجيش العراقي "إنكم تدركون قبل غيركم الدور الذي لعبه هذا الجيش في تاريخ بلادنا، وقال إن الجيش هو صمام أمن البلاد وركيزتها والهلب الذي يرسي سفينتها وعامل التوحيد الذي يربط أجزاء وشتات البلاد، فهو يضم الشيعة والسنة والمسيحيين والتركمان والأكراد والعرب. وكانت دعوة علاوي أشبه بدعوة الملك فيصل أول ملك للعراق بعد الحرب العالمية الأولى ووزير دفاعه جعفر العسكري لإنشاء جيش يضم جميع طوائف الشعب، وكان رأي الملك الذي أعلنه سنة 1933 بأن العراق لا يمكن أن يستمر دون جيش قوي".
واختتم علاوي حديثه قائلا: "إن العراق لن تعرف الاستقرار إلا إذا أصبح لها جيش قوي قادر على حماية حدودها وشعبها". فهل كانت هذه التصريحات لغوا انتخابيا أم أنها كانت قلب الحكمة وإن قيلت في توقيت غير مناسب؟