خلافات الإرث والإضرار بالوصية في الميزان الشرعي (2 من 2)
أجمع عدد من العلماء والدعاة على أهمية الوصية الشرعية والالتزام بها من قبل الورثة وأن أي تعرض لها يعني عدم احترام رغبة الموروث, واستثنى العلماء من ذلك من يحرم الورثة من إرثهم وتجييره إلى الغير أو من يخص بعض الأبناء دون غيرهم بشيء من الإرث. وقد تناولنا في الحلقة الأولى سبب تسمية الوصية وأنواعها والوصية لبعض الأبناء دون الآخر، وتحديد حقوق الآخرين واليوم نستكمل الموضوع في أحكام الوصية.
في البداية أوضح الدكتور ناصر الأحمد أن من أحكام الوصية عدم صحتها في الأمور المبتدعة والمسائل المحرمة كالوصية للكنائس ومعابد الكفرة والمشركين، أو الوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو الوصية بالنياحة والتبذير والبناء على القبور والتكفين بالحرير والدفن في مسجد أو في بيت خاص، كل هذا من الوصايا التي لا يجوز تنفيذها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لو حبس الذمي من مال نفسه شيئا على معابدهم لم يجز للمسلمين الحكم بصحته، لأنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، ومما أنزل الله أن لا يتعاونوا على شيء من الكفر والفسوق والعصيان، فكيف يعاونون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها.
وأضاف أن من الأحكام أنها لا تصح لأحد من الورثة، بمعنى أنك لا توصي لشخص له حق في الميراث لقول النبي: "لا وصية لوارث" رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وأضاف أن من أحكامها أيضا إخراج الواجب أولا في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية قبل تنفيذ الوصية لقوله تعالى: "من بعد وصية يوصى بها أو دين" فيبدأ بالدين ثم الوصية ثم الإرث.
ومن أحكام الوصية أن الوصية تصح لكل شخص يصح تملكه، بمعنى أنه يصح الوصية من مسلم لكافر، لأنها من باب الصدقة، والصدقة تجوز دفعها للكافر، وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخاً له وهو مشرك، وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي، وقال الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
ومن الأحكام: أنها تصح الوصية للحمل الذي في البطن إذا تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لحمل غير موجود، كما لو قال: أوصيت لمن ستحمل به هذه المرأة السنة المقبلة. لأنها وصية لمعدوم.
ومن أحكام الوصية: أنه لو أوصى بثلث ماله، فاستحدث مالا بعد الوصية، دخل في الوصية لأن الثلث إنما يعد عند الموت في المال الموجود حينه، ولأوضح بمثال: رجل يملك مليون ريال فأوصى بثلثها في مجال الخير، وقبل وفاته صارت المليون خمسة ملايين فالثلث يكون من الخمسة لا من المليون.
الإضرار بالوصية.
ومن جهته أكد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للسعودية أن هناك أمورا تتعلق بالإضرار بالوصية لابد من التنبه لها منها أن الوصية لا تكون لأحد الورثة؛ لأن الورثة يكفيهم ما خلَّف لهم ميتهم، ولهذا يقول النبي, صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث" لأن الوصية لبعض الورثة يكون أخذهم [بها] أخذاً زائداً عن الحق الذي فرض الله لهم في كتابه.
وثانياً: أن هذه الوصية ينبغي أن يتَّقي الموصي فيها ربه، فلا يقصد بها الإضرار والإساءة، ولا الحيف مع بعض دون بعض، وإنما يقصد بها منفعةَ نفسه في آجل أمره، فإن قصد بها المضارة والمضايقة كان من الآثمين، ولذا قال الله: "مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى? بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ" [النساء:12]، فشرط ربنا جل وعلا في الوصية أن تكون خاليةً من الإضرار، أما إذا كانت الوصية ضرراً فإن الموصي يأثم في ذلك.
ومن أنواع الضرر أن يوصي بحق في ذمته لأحد الورثة والله يعلم كذبه في ذلك، أي: يوصي بأن هذا البيت قد انتقلت ملكيته منه إلى فلان أو فلان من ورثته، والله يعلم أن كل ما وقع كذب، لكن يريد الحيف والجور والحسدَ والتعدي، وهذا أمر مرفوض شرعاً.
ويروى في الأثر عنه ما جاء في الوعيد على من قصد الإضرار بالوصية، وأن العبد ربما عمل بطاعة الله 60 عاماً، فيحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار. دلَّ على أن الجور في الوصية والتعدي فيها وقصد حرمان البعض دون البعض، أن ذلك أمرٌ لا يجوز.
وبين سماحته أن مما ينبغي أن يحرص عليه صاحب الوصية أن تكون تحت نظر ذي علم وبصيرة، ويكتبها ذو علم ومعرفة بالأحوال؛ لأن بعض الوصايا قد يكتُبها من لا يحسِن كتابتها، وليس عنده فقه في الدين، فتكون الوصية سبباً لإرباك الورثة، وعدم قدرتهم على تنفيذها، أو أن فيها ما لا يليق، فكون الوصية تحت نظر ذي علم وفقه حتى تكون موافقةً لقواعد الشريعة، فإذا رآها طالب العلم ورأى في تلك الوصية خللاً أرشد الموصي إلى العدل.
الوصية للمسلمين
من جانبه قال الشيخ الدكتور محمد المختار الشنقيطي المدرس بالمسجد النبوي أن الله شرع الوصية للمسلمين؛ لكي تؤدى بها الحقوق والواجبات، ويخرج المسلم من هذه الدنيا خفيف الحمل من التبعات والمسؤوليات.
والوصية تكون للإنسان في حق نفسه، وتكون في حق أهله وولده، وتكون بحقوق الناس وما لهم عليه.
أما وصية الإنسان فإنه يوصي لنفسه بخير بعد وفاته، يُبقيه الله جل وعلا له حسنة باقية، يدر عليه أجرها ويبقي له ثوابها، فيوصي من ماله بصدقة أو بر أو إحسان، ويجعل ذلك لوجه الله جل جلاله، يحتسب ثوابه عند الله.
وأبان أن الله جعل لمسلم قدر الثلث فيوصي بما دون ذلك من ماله، دخل رسول الله, صلى الله عليه وسلم, على سعد بن أبي وقاص وأرضاه وهو طريح الفراش في المرض في حجة الوداع فقال: يا رسول الله لقد بلغ بي من الوجع ما ترى، وإن لي مالاً كثيرًا وليس لي إلا بنت، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: "لا. قال: أفأوصي بشطره؟ قال: لا. قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير".
وأوضح فضيلته أن الإنسان إذا أراد أن يوصي فلا يبلغ بوصيته الثلث؛ لأن رسول الله عده كثيرًا ثم علل رسول الله وبين السبب حينما منع سعدًا أن يوصي بأكثر ماله قال له عليه الصلاة والسلام والخطاب للأمة كلها: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، هذا المال الذي تركته إذا تركته لأولادك فصنت وجوههم عن ذل المسألة والفاقة إلى الناس فإن الله يأجرك على ذلك ويثيبك عليه وهم أقرب الناس منك وأولاهم بمعروفك وإحسانك.
ويوصي المسلم بالصدقة من ثلث ماله فينظر أول ما ينظر إلى أقرب الناس إليه، لا يوصي للبعيد ويترك أرحامه وأقاربه، فإن ذلك من ضياع الخير على الإنسان؛ لأن أعظم ما يكون من الأجر أن يحسن الإنسان إلى أقرب الناس إليه فالوصية للقرابة فيها أجران: أجر الصدقة عليهم، وأجر صلة الرحم التي يصل الله أهلها بوصله يُحسن إلى قرابته فينظر إلى أقربائه الذين لا يرثون؛ لأن الوصية لا تكون لوارث.