شيخ الخياطين: 15 عاما في انتظار رد "الأمانة".. الدخلاء على مهنتنا كثيرون

شيخ الخياطين: 15 عاما في انتظار رد "الأمانة".. الدخلاء على مهنتنا كثيرون

رحلة طويلة من العمل امتدت إلى أكثر من 60 عاما، قضاها الشيخ عيسى المرشد بين مهن مختلفة، استقر في آخرها على مهنة الخياطة التي أصبح شيخا لها في مدينة الرياض، بعد أن جاء ترشيحه من قبل الخياطين الموجودين، فاعتمدته السلطات الإدارية في المنطقة آنذاك.
"أبو منصور" كما يحب أن نناديه اعترف بأن أمانة مدينة الرياض كانت سببا مباشرا في السماح بدخول ما اعتبرهم دخلاء على مهنة الخياطة، مشيرا إلى أنه كان في السابق هو من يمنح تصاريح العمل للخياطين، وأنه عندما أصبح الأمر تابعا للأمانة كثرت السلبيات، ما دعاه إلى مخاطبتهم قبل 15 عاما إلا أنهم لم يردوا على خطابه.
"أبو منصور" تحدث لنا عن تاريخ مهنة الخياطة بشكل عام، ورحلته في المهنة بشكل خاص، فكان الاستماع إلى حديثه متعة، والغوص في ذكرياته معرفة تتراكم وتفيد قارئها، من خلال مشوار مملوء بالكفاح والعمل والمواقف التي تشكلت عبر تاريخ حياته المهنية.

عرفنا بنفسك؟ وأين ولدت ونشأت؟
"أبو منصور"، عيسى بن عبد الله بن عيسى المرشد من مواليد الرياض عام 1358هـ، ولي من الأولاد تسعة. نشأت وتربيت في حواري الرياض القديمة، وكان والدي خياطا ورث المهنة عن جدي - رحمهما الله -، وبدأت العمل في مهنة الخياطة مع والدي في سن العاشرة، في الأحساء حيث انتقل إليها والدي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية للبقاء بجانب البحر حيث الموارد كثيرة ومتاحة، لأن أبي كان يعتقد أن الدنيا سيدهور بعد هزيمة هتلر، وستسوء الأحوال في نجد ذات الطبيعة المعيشية الصعبة، والبعيدة عن الموانئ ومصادر التجارة، وبعد نحو سنتين انتقلت إلى الرياض حيث تسكن أمي بعد فراقها عن أبي، وعشت في الرياض ولم أخرج منها حتى يومنا هذا.

متى بدأت العمل في الخياطة؟
بدأت العمل في الخياطة مع والدي في سن العاشرة، وتحديدا في الأحساء حينما انتقل إليها والدي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد نحو سنتين من العمل مع والدي - رحمه الله - حصل بيننا سوء فهم، فأمرني أن انتقل إلى الرياض حيث تسكن أمي بعد فراقها عنه، عدت إلى الرياض فرحب بي خالي عبد الله للعمل عنده مساعدا له في مهنة الطبخ، ولم يطل عملي بهذه المهنة أكثر من سنة حيث كانت قليلة المردود وكثيرة المجهود، وأنا أحتاج إلى المال حتى أعول أمي المريضة ونفسي، وأعيش عيشة كريمة لا أحتاج فيها إلى أحد غير الله سبحانه. بحثت عن عمل ذي مردود أكبر، فعملت لمدة أربع سنوات مساعدا للطباخ في إمارة الرياض، وكان أمير الرياض حينها الأمير نايف بن عبد العزيز، وبعد وفاة الملك عبد العزيز انتقل الأمير نايف إلى وزارة الداخلية، وخلفه في إمارة المنطقة الأمير سلمان، وانتقلت في عهده إلى العمل مساعد قهوجي عنده، وبعد أربع سنوات من العمل في الإمارة افتتح الضمان الاجتماعي وكان أول مبنى له في شارع الريل، فعملت على وظيفة قهوجي براتب 200 ريال شهريا، ولم يدم بقائي في الضمان الاجتماعي أكثر من أربع سنوات للبحث عن مصدر دخل أفضل، حيث ازدادت مصروفاتي وتكاليف الحياة بعد زواجي، فاخترت العودة إلى مهنة أبي وجدي كونها أفضل دخلا في ذلك الوقت، فعملت عند خياط اسمه أحمد الجعفري (أبو عبد الرحمن)، في قيصرية ابن كليب في حي مقيبرة (وسط الرياض)، وكان أبو عبد الرحمن - رحمه الله - من أمهر الخياطين في ذلك الوقت.

هل كان هناك خياطون من غير السعوديين في ذلك الوقت؟
نعم، ولكنهم قليلون فالغالبية العظمى من السعوديين، وكان عددهم نحو 60 خياطا، أكثرهم من أهل الأحساء وقليلا منهم من أهل نجد، فقد كانوا نحو أربعة فقط، وترك أهل الأحساء نجد تدريجيا بعد ازدهار صناعة النفط في المنطقة الشرقية، وكان آخرهم قد رحل قبل 20 عاما.

وكم كان دخلك الشهري عند أبو عبد الرحمن؟
لم يكن لي دخل ثابت، فالعمل عنده كان بالقطعة، وكنت أحصل على خمسة ريالات عن كل قطعة، والخياط يستطيع في اليوم إنهاء ما بين عشرة إلى 12 ثوبا، وكان عدد الثياب التي أخيطها يراوح بين قطعتين إلى 12 في المواسم.

وكيف كان العمل عند (أبو عبد الرحمن)، أقصد هل كان عمل الخياطين شاقا في تلك الفترة؟
نعم كان العمل شاقا، فقد كنا نعمل على آلات تدور بطريقة ميكانيكية تعتمد على القدم، وتخيل حجم الجهد الذي أبذله طوال اليوم على الآلة، فالواحد منا كان يخرج وهو منهك جدا يبحث عن الفراش فقط، لأن العمل يبدأ منذ الصباح الباكر إلى بعد صلاة العشاء بساعة، ولم يكن لدينا فرصة أن نخرج أو نذهب إلى البيت للراحة ونعود بعدها، فقد كان أبو عبد الرحمن - رحمه الله - يقفل المعمل على الخياطين ولا يفتحه إلا وقت الصلاة فقط، و ليس لنا راحة سوى أوقات الصلوات ووقت الغداء الذي يأتي به إلينا، ونأكله ونحن على آلة الخياطة، وكان قليلا لا يشبع العصفور ولكنها الحاجة.

كم طالت مدة عملك عند أبي عبد الرحمن؟
عملي لدى (أبو عبد الرحمن) استمر نحو أربع سنوات، تشربت فيها الصنعة جيدا، وتركت العمل عنده لأنه كان شاقا ومجهدا، وأنا أريد أن أكون حرا وصاحب محل ومهنة، فاستأجرت دكانا وبدأت العمل الحر في مهنة بدأت بها وعدت إليها، وكان هذا قبل أكثر من 40 عاما، تنقلت في عدة مواقع في حي الديرة (وسط الرياض)، إذ كانوا يرفعون علينا الإيجارات كل ثلاث سنوات إلى المثل تقريبا، نتيجة لازدهار المنطقة التجاري وكثرة افتتاح المكاتب التجارية فيها. بدأت في أول الأمر في شارع السويلم ثم في شارع الأمير تركي بن عبد الله عند قصر الحكم القديم، ثم انتقلت إلى منتصف الشارع باتجاه طريق الملك فهد، ثم انتقلت إلى محل قريب منه على شارع الأمير تركي ومكثت فيه أكثر من 20 عاما، وقبل أيام انتقلت إلى البديعة قبل مسجد الشيخ ابن باز - رحمه الله-.

متى تم اختيارك شيخا للخياطين؟ وكيف؟
رشحت شيخا للخياطين بعد نحو سبع أعوام من استقلالي في محل خاص بي، وكان الترشيح عبر قائمة بأسماء الخياطين الذين يرغبون في أن أتولى هذه المهمة، وقد رشحني للمشيخة أغلب الخياطين الكبار - لله الحمد-، بعد أن طلبت الأمانة من الخياطين تعيين شيخ لهم، ومنذ ذلك الوقت وأنا شيخ لمهنة الخياطة في الرياض، وغير الاسم أخيرا إلى "رئيس الخياطين".

ما مهمة شيخ الخياطين؟
كانت مهمتي هي إصدار رخص مزاولة المهنة لراغبي العمل فيها من السعوديين وغيرهم، ويتم إعطاء الرخصة للمتقدم بعد التأكد من كفاءته، وللمحل بعد استيفاء مستلزمات ممارسة المهنة، وكذلك الفصل بين المتخاصمين وإصدار الحكم، وكانت القضايا تدور حول غش القماش ورداءة الخياطة، حيث كانت الأمانة تحول القضايا التي تحدث بين الخياطين والزبائن إلي، وفي حالة عدم الرضا يحالون إلى الأمانة مرة أخرى، وينظرون في تغيير الحكم وغالبا يعتمدون رأيي، وفي حالة الممانعة من المحكوم عليه تفرض عليه غرامة تحصلها الأمانة، ولكن الحال لم يدم فقد أصبح ترخيص محل الخياطة يصدر دون الرجوع إلي منذ أكثر من 15 عاما، وهذا ما أدى إلى كثرة محال الخياطة، وكثرة الدخلاء على المهنة.

هل تقدمت إلى الأمانة لإعادة الوضع السابق في الرخص؟
نعم، فقد تقدمت قبل نحو 15 عاما بطلب إلى الأمانة لإعادة الوضع السابق في الرخص، وتحديد عدد المحال في الشارع الواحد، حتى تضبط ممارسة المهنة، وتتم بإتقان أكثر، ومعرفة مزاوليها ليسهل الوصول إليهم، ولكي نأمن الإساءة إليها من الدخلاء عليها، فردت الأمانة علي حينها أنه إذا تم شيء حول اقتراحك سنتصل بك، وإلى الآن وأنا أنتظره، لكني أتوقع أن اقتراحي يصعب تطبيقه الآن حيث انتشرت محال الخياطة بشكل كبير، ولكن لا بد من حل لذلك، حتى ترتقي المهنة وتحفظ الحقوق.

هذا في مجال الرخص، ماذا عن الفصل بين الزبون والخياط؟
أما الفصل بين الزبون والخياط فقد قلت الحالات التي تحال إلي من الأمانة منذ نحو ست سنوات.

برأيك لماذا قلت؟
لأن الناس صارت لا تهتم مثل الأول، فالمحل الذي لا يتقن العمل أو يغش يتركه الزبون إلى غيره، لأن المسألة في نظر الزبون أن الوقت الذي يقضيه في التقدم بشكوى والنظر فيها أثمن من الأمر المتخاصم عليه غالبا.

هل استقدمت عمالة غير سعودية؟ ومتى؟
نعم، استقدمت العمالة بعد نحو عشر سنوات من افتتاح محلي الخاص، لكثرة العمل وعدم وجود سعوديين يعملون فيها كما في السابق.

هل كنت تدرب من يريد منك ذلك من السعوديين؟
نعم أدربه وأرغب في استمراره، وخصوصا خريجي المعهد المهني فقد كنت أصدر رخص مزاولة المهنة بعد أن يتخرج من المعهد، وبعضهم يعمل لدي بضعة أشهر وبعدها يتقدم إلى الجيش، لأن الجيش كان يشترط في الخياط أن يسبق له العمل في المهنة عددا محددا لا أتذكره من الشهور.

هل يوجد خياطون سعوديون الآن؟
نعم، كان هناك شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، كنت قد دربته مع مجموعة اختارت الجيش، واستقل هو بمحل خاص في شارع الوزير وزاول المهنة، وانقطعت أخباره عني منذ نحو أربع سنوات.

عدم رغبة الشبان السعوديين في العمل في الخياطة، إلام يعود في رأيك؟
مهنة الخياطة مربحة لمن يستمر فيها، والشباب قد استغنوا بوظائف الحكومة عن العمل الحر، لمحدودية ساعات العمل وثبات الدخول، وخصوصا بعد الطفرة الاقتصادية التي حدثت لنا في الثمانينيات الميلادية.

حدثنا عن المهنة كيف كانت قديما؟ والآن؟
قديما كانت المهنة شاقة نوعا ما، فقد كنا ندير آلات الخياطة بأقدامنا، وكانت الآلات من نوع "سنجر" و"بف" اليابانيتين، أما الآن فقد قلت المشقة عندما دخلت الآلات الكهربية من الصناعة نفسها، وكان الخياط يخيط ثياب الصيف قبل دخوله، وكذلك الثياب الصيفية نخيطها في الشتاء، استعدادا للموسم حيث يقل العمل في آخر الموسم فيستغل في ذلك.

كيف كان الخياط يعرف المقاسات المناسبة لزبائنه؟
في السابق كانت المقاسات ثلاثة فقط، هي: منصوف، مثلوث، ومربوع، وطريقة المقاس أن يقسم عرض طاقة الثياب إلى النصف وهو المنصوف وهو مقاس البدين، ويقسم إلى ثلاثة وهو المثلوث، ويلبسه الشخص المتوسط، والمربوع يقسم إلى أربعة أقسام وهو للنحيل. وقد كان القماش قديما أعرض من قماش اليوم، فعندما يأتي الرجل لشراء الثوب يحدد مقاسه ويأتي بثوبه من الصندوق المخصص للمقاس، ويقصره إذا كان طويلا، أو يبحث له عن أطول في المقاس نفسه، وكان الخياط قديما يحدد قياس الزبون بالنظر إليه بتفحص ، فيعرف مقدار الطول والعرض، ويطلب من الزبون رفع يده، ويضع الخياط يديه حول رقبة الزبون لتحديد قياسهما، ومنهم من يأخذ القياس بواسطة الشبر، لأن المتر المتعارف عليه الآن لم يأت إلينا إلا قبل 30 سنة، ومن ثم بدأ استخدامه آنذاك إلى أن بدأ الناس في طلب الدقة في المقاس شيئا فشيئا.

هل يختلفت الذوق العام في الملبس قديما عن الآن؟
نعم يختلف كثيرا، فقد كان الشخص يلبس الثوب ولا يدقق في سعته أو الأكمام أو الرقبة، وحتى لا ينتبه إلى دقة الخياطة من عدمها، فكانوا لا يدققون في الشكل كما زبون اليوم، فهو يطلب الدقة في الخياطة وتناسق الثوب مع الجسم، حتى يظهر في أحسن شكل.

ما أنواع الملابس التي كنتم تخيطونها قديما؟
هناك الثوب المرودن وهو ثوب أهل نجد، ويتميز عن الثوب الحجازي الذي نلبسه الآن باتساع كمه تدريجيا من الكتف حتى يبلغ طوله المتر عند الكف، وهناك الثوب الحجازي الذي نلبسه الآن، فقد كان المرودن الذي لا نراه الآن إلا في العرضات والمناسبات الشعبية، هو الثوب الشائع لدى أهل نجد، وكان البعض يربط طرفي الكم ببعض، ويضعه خلف رقبته للتهوية، وكذلك كنا نخيط "الصاية" وهي ما يلبس فوق المرودن، ولكي يظهر كمه الطويل، يكون كم الصاية مفتوحا من جهة الكف، كذلك من الملبوسات القديمة "الدقلة" و"السترة" التي تشبه الجاكيت، والدقلة وهي بطول الصاية إلا أنها تشبه الثوب وتكون مفتوحة من الأمام كما المعطف "البالطو".

الأكثر قراءة