حياة تبدو أقصر من مقدمة موسيقية.. وأعظم من أغنية!

حياة تبدو أقصر من مقدمة موسيقية.. وأعظم من أغنية!

ربما تكون المقدمة الموسيقية في أغنية "أنا راجع أشوفك، سيرني حنيني إليك" والمقدمة الأخرى في أغنية "ياكريم" أطول أو أقصر مما يجب. لا أحد يبدو متأكداً، فالأغنيتان اللتان غناهما الراحل طلال مداح في مرحلتين متباينتين من مشواره الحافل، واللتان تستلهمان تجربتين مختلفتين، كان من المفترض أن تخاطبا جمهورين منفصلين ومستقلين، لكن جماهيرية الراحل الكبير أذابت كل الفوارق ولا تزال. رغم مضى سبع سنوات بالضبط على آخر أغنية وجمهور.
الطريق من الرياض إلى جدة طويل، وحار وغير محتمل في آب (أغسطس)، ويستهلك أكثر من مجرد مقدمة موسيقية، غالباً يستهلك أغاني كاملة وحياة تختبئ خلف الأغاني. طلال مداح الصوت الحجازي الآسر الذي أصبح صوتاً للأرض يتم سبع سنوات كاملة بعد رحيله المر، يتم السنوات السبع الكاملة هنا، في المسافة الضيقة بين أغنيتين لا يسمعهما جمهور واحد في الحالات العادية، ولا تفضلهما ذائقة عادية لم تنم، في الأساس، على رجع صوته الحزين والفرح في آن واحد. إنها نفس الحالة التي تختصر فيها المسافة الشاسعة بين مدينتين تقدر بألف كيلومتر، إلى مجرد مقدمة موسيقية.
نتذكر طلال مداح الآن بشكل مختلف، شكل يبدو "عملاقاً" في خيالنا، وخلف الأغاني، وفي الصور الكثيرة التي تروي مراحل تجربته. نتذكر الآن المقطع "دام الأمل موجود فالنفس خضاعة" في أغنية "الله يرد خطاك" الذي سقط بعده متعباً سقطته الأخيرة. ونفكر في الرجل الذي مات وهو يحدثنا عن الأمل، وفي الرجل الذي مات وهو يغني لنا في مساء خميس، لأننا نطلب منه الغناء دوماً ولا نترك له مساحة ليستريح.
لا يوجد شيء مرعب في العالم الذي تركه طلال أكثر من العالم الذي تخلو منه أغاني طلال. فمع الوقت، تصبح عودتنا إلى تراث طلال الغنائي تزجية للفراغ وألم الغياب أكثر منه فعلاً طربياً وبحثاً عن متعة. مع الوقت نحفظ أو نكاد أغاني "أنا راجع أشوفك" و"زمان الصمت" و"مقادير" و"الموعد الثاني"، ونتجاوزها إلى البحث عن طرق جديدة لهذه الأغنيات، جلسات مثلاً أو أغان منفردة على العود، ونسأل عن الفنانين الآخرين الذي أعادوا غناء هذه الأغاني في حفلات أو أشرطة، والذين لا نمنحهم درجة النجاح في الغالب.
رحيل طلال مداح، في سبع سنوات اختبرت فعل الغياب ونتائجه، أنتج ظاهرة أخرى مختلفة عن الظاهرة الأكبر، ظاهرة الفنان البسيط والإنسان العفوي والمختلف الذي عاش بيننا في يوم من الأيام. الظاهرة الجديدة هي ظاهرة العملاق غير الموجود، الغائب. الذي تعيش الجماهير في هاجسه وتعلق على ذكرياته إيمانها بالماضي الجميل، وتجدد من خلال غيابه رفضها للشكل الجديد، والسوء الجديد. "الطلاليون" مثلاً، كما يحلو لهم تسمية أنفسهم، نموذج واضح لما يفعله رجل مثل "طلال مداح" بنا أثناء مروره. جمهور مخلص ومتذكر ومتنوع، لكنه لا ينسى.
جاء طلال مداح في وقت مبكر، ولد في عام 1939م في مكة المكرمة، ترعرع في مكة المكرمة والطائف، مسيرته الطويلة عرفتها أجيال متنوعة، في وطنه وفي الخليج وفي العالم العربي. غنى كلمات لشعراء مختلفين ومتنوعين، لكنهم كانوا رائعين بصوته على الدوام، منهم على سبيل المثال: بدر بن عبد المحسن وخالد الفيصل وفائق عبد الجليل وثريا قابل وعبد الله الفيصل وإبراهيم خفاجي ولطفي زيني ومحمد العبد الله الفيصل وغيرهم. قدم فناً أصيلاً ورائعاً رغم أن الساحة الفنية من حوله تموج بالشد والجذب من تيارات الأغنية التقليدية والتيارات المضادة، وعندما كان يواجه باللوم البالغ بسبب بعض أغانيه التي توصف "بالرديئة" وبكونها لا تناسب قامته ومسيرته. كان المقربون منه يعرفون أن طبيعته البسيطة والعفوية و"المجاملة" تورطه في هذه الاختيارات. وكان يعود في الوقت المناسب، دائماً.
الحفلة الأخيرة التي أحياها الراحل يوم الخميس 11 آب (أغسطس) 2000م على مسرح المفتاحة انتهت، كما نتذكر، بسيناريو مؤلم وغريب لم يكن مدرجاً ضمن أشد الاحتمالات سوداوية، عندما سقط المغني كان الجميع يفكر في أكثر من مجرد إكمال الأغنية، وعندما غاب، كان الغياب يزيد حجم الظاهرة يوماً بعد آخر، رغم أننا كنا خائفين من اختفاء صوته، ومن عودتنا للأغاني المسجلة فلا نجد إلا المقدمات الموسيقية.
نتذكر طلال مداح بفعالية أقل كل عام، بعد سبع سنوات لا تزال أشرطته تحقق معدلات بيع عالية جداً. وتراثه الذي يدعمه جمهور مخلص وجهود شخصية ما زال محط اهتمام المستمعين والفنانين، أغنياته ما زالت تؤدى بأصوات جديدة وبطرق جديدة. والمقدمات الموسيقية في أغانيه تبدوأقصر مع الوقت، وصوت طلال فقط هو ما يملأ الذاكرة.

الأكثر قراءة