شعراء بلا وسامة.. الماء والخضرة والشعر الحسن!

شعراء بلا وسامة.. الماء والخضرة والشعر الحسن!

مدخل:
"الشهرة تهب الوسامة"

استكمالاً لما كنّا قد بدأناه في الأسبوع الماضي من حديثٍ حول العلاقة بين شكل الشاعر ونتاجه، نعرّج اليوم للحديث عن الشعراء الأقل حظاً في مسألة الشكل، وهم بالطبع الفئة الغالبة من حيث العدد، وهم أيضاً الفئة الغالبة من حيث وسامة النص، تلك الوسامة التي يبحث عنها قارئ الشعر الحقيقي، ولكن دعونا أولاً نتحدث عن علاقة الشعراء بأشكالهم ولنبدأ من زمانٍ مختلف بمتطلباته ووسامته وإعلامه، فما بين العصر الجاهلي وصدر الإسلام عاش الشاعر الحطيئة المعروف بهجائه لكل ما تقع عليه عيناه، حتى أنه وقف أمام المرآة يوماً فقال:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
بسوء فلا أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه
فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله
لكن هذه الدمامة الواضحة من خلال هجاء الشاعر لنفسه لم تعطل موهبته، وهي دائماً لا تعطل الموهبة لكنها محبطة عندما يبدأ الشاعر في تلمّس النجاح والانتشار، حينها يبدأ في حساب كل شيء مهما كان هامشياً، خصوصاً في هذا الزمن الذي يلهث خلف القشرة الخارجية ويترك اللب، حتى أن الشعراء ينفقون من الوقت في التصوير ما يفوق الوقت المستهلك في كتابة النص.
وفي تراثنا المحكي القريب هناك حكايات كثيرة أظهرت أن المخيلة الشعبية ترسم للشعراء صوراً تأخذ وسامتها من وسامة نصوصهم التي تتناقلها الأفئدة بين البوادي والقرى دون معرفةٍ لصورة الشاعر الحقيقة فلا تلفاز في ذلك الزمان ولا استديوهات تصوير ولا فوتوشوب، فقط روح شاعر تقف على أغصانها قصيدة بحاجةٍ إلى فجر كتابةٍ يهديها السماء، ما حدا بالفتاة المنعّمة أن تصارح شليويح العطاوي بالفارق الكبير بين صورته الحقيقة والصورة التي رسمتها له، ليرتجل لها وبها قصيدةً لا تخلو من هزيمةٍ بيّنة في داخله، وإن بدا في ظاهرها منتصراً لنفسه:
يابنت ياللي عن حوالي تــسالين
وجهي غدت حامي السمايم بزينه
أســــهر طوال الليل وانتي تنامين
وإن طاح عنــــك غطاك تستلحقينه
أيضا تدخلت المخيلة الشعبية مرةً أخرى وقبل ثورة الاتصالات الأخيرة بقليل لتضع الشاعر سليمان المانع في ذات الموقف الذي وقع فيه شليويح العطاوي، وبذات النصر الشكلي والهزيمة الضمنية خاطبها سليمان قائلاً:
كان الرجولة بالمظاهر والأشكال
عز الله أني ماعرفت الرجولة
وكان الرجولة بالمواقف والأفعال
عز الله أني مرتوي يالخجولة
ولم ينس سليمان أن يعاتبها برقته وعذوبته المعروفة بقوله " ياجارحة إحساس شاعر ورحال" قبل أن يعود من جديد ليوضح موقفه بصراحة وشجاعة لا تخلو من طرافة :
شكلي غلط لكن على الكود حمال
ودرب الفخر نفسي عليه معلولة
وهذا الاعتراف الصريح يذكرنا بمراوغة حامد زيد الشهيرة والتي لم تسفر عن هدف في نهاية الهجمة، ربما لأن حامد زيد عرف عنه دائماً دفاعه المستميت ووعيده وتهديده لكل من يقترب منه، لذلك راوغ ثم سدد تسديدة مدافعٍ اعتلت العارضة والمدرجات وسط ابتسامات عريضة من جماهير الشعر، فحامد حين يقول"على قول المثل ماني حلو لكن ماني شين" يكون قد سجل اعترافاً صريحاً بعقدة تلازمه تجاه شكله، هذا على الرغم من نجاحاته الإعلامية المتلاحقة، وحضوره الدائم حد السأم، الأمر الذي جعله يخرج على الناس شاكياً من الفضائيات التي مللت المتابعين من شكله على حد قوله.
هناك آخرون من الشعراء غير الوسيمين "شكلاً" الفاتنين "شعراً" تظهر لهم بعض الجمل التي تشير إلى شعورٍ بمرارة تجاه ما يحدث من حولهم من حظ وشعر وفاتنات، ففي الوقت الذي يتغزل فيه وسيمو الشكل بثلاث فتيات دفعةً واحدة نجد الشاعر الكبير الحميدي الثقفي يقول:
"عطوني حب واخذوا ماغلى من تركة أجدادي!"
والوسيم شعراً وخلقاً عيضة السفياني يهب الدنيا حكمةً غير مسبوقة في قوله:
البنات
موت.. من لا ذاق طعمه
ما عرف طعم الحياة!
الجميل في هؤلاء الشعراء أنهم تفرغوا تماماً لهندمة القصيدة في دواخلهم، لتصبح بعد ذلك "وجهاً" جميلاً يطلّون به على القارئ الذي يرى بذائقته، وبها يستطيع التفرقة بين "مملوح" و"متميلح"!

مخرج:
من يسبق ويملا يديه..
يشرب ملامح صاحبه!

بدر بن عبدالمحسن

الأكثر قراءة