الاتفاقيات الثنائية ليست بديلا عن تحرير التجارة الدولية

الاتفاقيات الثنائية ليست بديلا عن تحرير التجارة الدولية

تريد منظمة التجارة العالمية أن تنشئ لها مركزا جديدا في جنيف. وإذا كان البناء الجديد سيقام لغرض تحرير التجارة العالمية, فإن من الأفضل لمنظمة التجارة العالمية أن تتخلى عن مشروعها. فمن المعروف أن الحرية لا تشغل مرتبة متقدمة في سلم أولويات السياسيين المعنيين بشؤون التجارة. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن ما يسمى جولة الدوحة التي ابتدأت في قطر عام 2001 وكان من المفروض في الأساس أن تختتم أعمالها في نهاية عام 2004 قد وضعت على جليد بارد بسبب الخلافات العميقة في وجهات النظر بين الأطراف التي شاركت في تلك المفاوضات. ومنذ ذلك الحين لم يحدث ما هو جدير بالذكر, بل بالعكس تماما حيث إن المفاوضات التي جرت أخيرا بين الأربعة الكبار : أميركا, والاتحاد الأوروبي, والبرازيل والهند انتهت أخيرا في مدينة بوتسدام الألمانية دون نتيجة وكان لا بد من قطعها قبل الموعد المقرر. لقد كان المفروض أن تكون " الدوحة " بالنسبة لمجموعة دول منظمة التجارة العالمية, التي يبلغ عددها في هذه الأثناء 150 دولة, رمزا للتجارة الحرة والرفاهية التي يقدر البنك الدولي عوائدها بأكثر من 96 مليار دولار. غير أن المريض, واسمه التجارة العالمية, يوجد في هذه الأثناء في حالة غيبوبة متقطعة, بل إن البعض يعتقد بأنه في حالة موات بطيء.
وفي الحقيقة أن من المفروض أن يتم التوصل إلى حل انتقالي حتى نهاية شهر تموز (يوليو) الجاري إذ من المعروف أن تخويل الرئيس الأميركي صلاحية التفاوض قد شارف على النهاية حيث يصبح من صلاحية الكونجرس أن يقر أي اتفاق بكامله أو أن يرفضه بكامله أيضا. وقد عبرت المفوضة التجارية الأمريكية سوزان شواب عن مثل هذه الآمال عندما قالت, في أعقاب الفشل الذي منيت به مفاوضات بوتسدام : " نحن نستطيع أن ننجز المهمة خلال هذه السنة. " أما المدير العام لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي فلا يريد أن يعترف بالفشل, وهو ماض في التفاوض بعزيمة لا تكل.

وبغض النظر عن كل ذلك فقد تبين أن تركيز المفاوضات التجارية ضمن إطار مجموعة الأربعة لم يحقق شيئا باستثناء أنها أدت إلى بروز القضايا المركزية بصورة حادة أكثر من أي وقت مضى., وهذا ينطبق من ناحية على الخلاف الزراعي بين الأوروبيين والأمريكيين, حيث يطالب الأوروبيون بإجراء تخفيض واضح في ال 22 مليار دولار التي تقدم سنويا كدعم للمزارعين في الولايات المتحدة الأميركية. ولكن الأميركيين من جهتهم يعتبرون مطالب الأوروبيين، باستثناء بعض المستوردات الزراعية من التخفيض الجمركي المقترح، بمثابة شوكة في عيونهم. وعلى الرغم من جميع التنازلات التي وافقت عليها الدول الصناعية فقد طفت على السطح من جديد الفجوة الواسعة حقا التي دفعت كل ما عداها إلى الخلف, ألا وهي السياسات الحمائية التي يمارسها الأميركيون والأوروبيون في الزراعة, من جهة, وتلك التي تمارسها كل من البرازيل والهند بالنسبة لمستورداتها من السلع الصناعية, من الجهة الأخرى. وربما كان من الأسهل لو كانت هذه الفجوة لا تعبر عن تناقض رئيسي يظهر أيضا, على سبيل المثال, في سياسات حماية البيئة. فما تعتبره الدول الصناعية تنازلا, بمطالبتها تساوي جميع الأطراف في تحمل الأعباء المترتبة على هذه السياسات, تعتبره البلدان النامية والبلدان الصاعدة عقدة تحول دون تحقيق مساعيها للحاق بالاقتصاد العالمي, وهي تعتبر أنه لا بد للدول الصناعية من إعطاء تنازلات بعيدة المدى كأمر لا مفر منه وكإجراء لضمان تحقق العدالة والتوازن.

إن البرازيل والهند بشكل خاص لم تنجزا الكثير ضمن مجموعة الأربعة للتخفيف من حدة التناقضات القائمة. ولهذا يثور السؤال فيما إذا كانت تكتيكاتها التفاوضية تعبر حقا عن طموحات بقية البلدان الصاعدة والبلدان النامية. فهل تسعى هذه الدول لتحقيق المزيد أم ربما لتحقيق ما هو أقل مما تحقق؟ ومما لا شك فيه على أي حال أن مهمات كثيرة لا تزال في انتظارها. إن الصين غير ممثلة في مجموعة الأربعة كما أن إفريقيا بأسرها ليس لها صوت هناك. وفي ضوء أهمية هذه المفاوضات حبذا لو تم الترتيب لجولة جديدة من المفاوضات يشارك فيها أهم رؤساء الدول والحكومات خارج إطار منظمة التجارة العالمية على أمل حل هذه العقدة. والتعبير عن أهمية التوصل إلى توافق حول هذه القضايا لم تتخلف عن المشاركة فيه المستشارة الألمانية.
إن الزمن لا يراوح مكانه, فمع تعثر جولة مفاوضات الدوحة ابتدأت اتفاقيات التجارة الحرة بين الدول تكتسب جاذبية خاصة, إذ إن إبرامها أسهل, كما أن من الممكن تكييفها حسب الحاجات الخاصة للدول المعنية. ويلاحظ الآن أن المفاوضين موجودون في كل مكان. فأميركا عقدت قبل فترة وجيزة اتفاقية مع كوريا الجنوبية, بينما تقف سويسرا الصغيرة على عتبة إبرام اتفاقية ذات دلالات خاصة مع اليابان. ولكن منظمة التجارة العالمية تجادل ضد مثل هذه التوجهات وتكتفي بالتأكيد فقط على الحاجة إلى اتفاقية تشمل العالم بأسره. أما الحديث عن الحاجة للإسراع في تحقيق ذلك، فليس له حتى الآن أي أثر.
وبعد ذلك تتفاعل آثار المحاكاة, فكل اتفاقية للتجارة الحرة تستثير الدول المستثناة لأن تنشئ لنفسها شبكة مماثلة من الاتفاقيات. ومن المؤكد أن الاتفاقيات الثنائية للتجارة الحرة تشكل حلا طارئا ولكنها لا تشكل بديلا لتجارة عالمية حرة عامة. فأولا تستطيع الدول القوية أن تدعم مواقعها بسهولة أكبر مما يستطيع الآخرون. وثانيا تظل هناك مجموعة من الدول التي لا يهتم بها أحد, وهي الدول الأكثر حاجة إلى ما يمكن أن ينجم عن اتفاقية عامة من تحسن في أحوالها المعيشية. وثالثا لا بد لشبكات اتفاقيات التجارة الحرة لدول منفردة أو لمنظمات إقليمية من أن ترتبط مع بعضها البعض. مما يقتضي تحمل تكاليف بيروقراطية باهظة. إن بشائر جولة الدوحة لا تبدو مشجعة.أما إذا فشلت نهائيا فلا بد من خلقها مجددا. إن الاقتصاد العالمي لا يحتمل رفاهية الاستغناء عن تحرير تجارته.

الأكثر قراءة