عمل شريف أم تسول عفيف؟
تتقاطر من وجوههم البائسة حبات العرق وتتساقط أجسادهم الكالحة بعد كل مرة عند أقرب شجرة أو ظل بجانب تلك الإشارة التي تتراص أمامها صفوف السيارات لتحيلها موقعا استراتيجيا لهؤلاء يسقون فيه الجالسين على أرائك سيارتهم مقابل ورقة مالية صغيرة يدسها الصغير في جيبه ليعطيها الكبير الذي ينتظر.
و مع وصول درجات الحرارة إلى أعلى معدلاتها تعود لتصل من جديد ظاهرة استغلال أطفال الشوارع أو أطفال الإشارات مجدداً إلى أعلى مستوياتها في مشهد يتكرر كل عام ليفرض تساؤلات يطلقها المتابع القلق ليسمع رجعها دون جواب. عشرات الأطفال ما بين السابعة إلى الـ 15 عاما يتوزعون في أماكن الانتظار للسيارات وهم يحملون عبوات المياه الباردة في يد ويد أخرى مدربة تستقبل الأوراق النقدية لتصرفها وترجع بقيتها على عجل للزبون الذي لا يريد إبقاء نافذة سيارته المكيفة مفتوحة لوقت أطول من وقت تسلم العبوة فالحر شديد لا يملك معه أحد الصبر عليه.
وفي الوقت الذي يتعرض فيه هؤلاء الصبية لدرجات حرارة عالية يظهر هؤلاء ميلا للبقاء ساعات النهار كلها خلف عبواتهم المليئة بالمياه الباردة التي تصل إليهم بين الفينة والأخرى من مشغلين كبار سنا وجسما، على الأقل لم يريدوا النزول إلى الميدان لأسباب تجارية تعطي الأفضلية للأطفال مع ميزة القبول والتعاطف للشراء منه ويشكل الأطفال المقيمون من بين هؤلاء الباعة الصغار في المنطقة ما يقارب 50 في المائة فيما تتراوح النسبة المتبقية بين عمالة مجهولة الهوية وأطفال سعوديين.
ورغم سخط وتذمر شريحة كبيرة من السعوديين من عدم مبالاة أولياء أمور هؤلاء الأطفال من بقائهم لساعات طويلة من النهار والزج بهم إلى الشوارع تحديدا عند إشارات المرور للتنقل بين ارتحال السيارات والتجمعات المرورية والسكانية والتجارية فإن استغلال براءة طفولتهم من أجل الكسب المادي حالت دون إيجاد حل جذري يعيد إلى هؤلاء الصغار من جديد أو يمنحهم لأول مرة العيش في جو من الترابط الأسري ومزايا التعليم والترفيه التي يحتاج إليها الطفل.
يقول سعد الجابري إن هؤلاء الأطفال مع الأسف وقعوا ضحية جهل آبائهم وأمهاتهم والفقر والعوز والحرمان, وفقدوا الرعاية والأمان الأسري وقدموا أنفسهم لقمة سائغة للانحراف السلوكي والأخلاقي ومن يدفع الثمن ليس هم فحسب بل المجتمع الذي يؤويهم وكل من يحيط بهم, فنحن مسؤولون عنهم وعن إعادة تأهيلهم وتقويم سلوكياتهم ليكونوا أفرداً مؤثرين ومنتجين في المجتمع بدلاً من اكتساب سلوكيات الشارع والعيش والارتماء في أحضان العنف والتشرد, وأضاف أن الضمير الإنساني يحتم علينا عدم السكوت عن هذه الظاهرة التي تأتي انعكاساً لعدة عوامل من أهمها الجهل والفقر وعدم وجود المعيل, كأن يكونوا أيتاماً لا عائل لهم. فتجب مساعدتهم وعدم تركهم عرضة للانحراف, إضافة إلى أن فئة من أطفال الشوارع وقعوا ضحايا لعصابات وجماعات التسول التي غالباً ما تكون من متخلفي الحج والعمرة ورغم ذلك فإن الأنظمة والشرائع السماوية تحرم استغلالهم في مثل هذه السن المبكرة.
فيما يعتبر الأخصائي الاجتماعي عارف الحربي أن الشراء من هؤلاء الأطفال يشكل دعما للظاهرة بشكل غير مباشر، فالأحرى أن تتم محاربتها من جميع الأطراف المعنية من جهات حكومية وأهلية وأفراد, فكل مواطن مسؤول أمام تفشي هذه الظاهرة مؤكداً على دور إدارة المرور وجهاز مكافحة التسول والجمعيات الخيرية وأهل العلم والمتخصصين في إعداد دراسات للحد من الظاهرة ومنع انتشارها وتحولها لمصدر رزق مئات الأسر الفقيرة.
و أصبح ملاحظا خلال الفترة الأخيرة وجود أطفال سعوديين من بين هؤلاء الباعة عند الإشارات بشكل أكبر من السابق ما يوحي بأن الظاهرة بدأت تأخذ أبعاداً أكبر وتتغلغل إلى أطفال المدارس, بعد أن كانت تقتصر على الوافدين في سنوات ماضية, وأضاف الدكتور الحربي أن بعض هؤلاء الأطفال يخشى من اندماجهم في سن المراهقة مع عصابات السرقة أو تجار المخدرات أو المدمنين عليها, إذ إنه ومع مرور الوقت ستشعر هذه الفئة من الأطفال الذين وقعوا عرضة للاستغلال والجشع المادي بالحرمان والنقص وقد يتولد لديهم عند سن الشباب الرغبة في الانتقام مستقبلا بعد أن اقتصر طموحهم في سنوات الطفولة على توفير لقمة العيش لأسرهم دون الذهاب إلى مقاعد الدراسة، والاستمتاع بالأمان في أحضان الأسرة.
أسواق الخضار.. المرتع الأفضل لعرق الصغير
أمام بوابات أسواق الخضرة في مناطق معينة من البلاد حتما سيستقبلك أحدهم بقامته الصغيرة وصوته المتحشرج الذي يحاول أن يثب به إلى خشونة الجو المحيط..لا تقلق فهولاء أبناؤنا إنه الطفل جبران ذو الـ 14 خريفا - وليس ربيعا – لم يقدم من بعيد جدا كما توقعت هو من منطقة جازان، المنطقة التي تنتج رجالا يحبون العمل منذ الصغر كما يقول الصغير الذي يبدو على غير العادة سعيدا بعمله، فهو - كما تحدث لنا - يكسب جراء حمله للخضراوات والفواكه واللحوم في عربته ذات العجلات الصغيرة ما يقارب الـ 70 ريالا يوميا، حتى وإن اضطر لقضاء يومه بين أركان السوق يومه الذي يبدأ فجرا مع صياح الديكة وينتهي قريبا من منتصف الليل.
لا بأس لدى جبران من قضاء كل هذا الوقت هنا بين البضائع والزبائن فأهله بعيدون جدا عنه (1200 كلم من المدينة المنورة إلى جيزان)، وكل المطلوب توفير لقمة العيش الكريم لهم، غير أنه بعد أن يفرغ من عمله الذي ينوء بحمله الرجال يذهب قاصدا بيتا للعزاب وأرباب المهنة وزملائهم الذين ليسوا جميعا من سنه، ومع ذلك فهو يثني عليهم ويجد تفاهما معهم رغم أنه لا ينفي أن من بينهم أشخاصا لا يرتاح إليهم ولا يتناسبون مع سلوكه الهادئ. دور البلدية كما يراه جبران يقتصر على الوعيد بالمنع لمن لا يحملون تراخيص، غير أنه يشكر الله أن ذلك لا يحصل على الأرض.
وحول التراخيص يعتقد أنها لا تستلزم سوى أخذ بعض المال من أصحاب "العربيات" نظير تجولهم وكسبهم من السوق الأمر الذي يخشى أن يؤثر في دخله الذي يحتاج إليه أهله بدرجة أولى. وفي الوقت الذي يذهب فيه جبران إلى السوق مجبرا بفعل الظروف والحاجة، فإن طفلا سعوديا آخر يذهب لقضاء عطلة ارتضاها له أبوه كما يقول الطفل محمد بطحي، ويبرر ذلك مرددا جملة والده "أحسن من القعدة بطالي" وهو أمر أقنع الطفل الذي بدأ يكسب من جولته "غير البطاله" 80 ريالا، مع كونه يقضي فقط نصف الوقت الذي يقضيه جبران، فهو يأتي ظهرا بعد أن يملأ جفنيه نوما، ويغادر مع غروب الشمس مساعدا في ذلك أباه المتسبب الذي يريد أن يعلمه العمل في الصغر ليرتاح في الكبر.
محرمات دولية واجتماعية
على الرغم من أن المنظمات الدولية تحظر عمل الأطفال وكل من هم دون 18 الأمر الذي تطبقه المؤسسات الحكومية التي لا تعين في الوظائف من هم دون هذه السن القانونية للعمل، إلا أن المؤسسات الصغرى التي يدعمها المجتمع بأفراده البسطاء تدفع في هذا الاتجاه لعمل الصغار تحت ذرائع تساق لتبدو منطقية كون اليد التي تعمل لا تشتغل بسفاسف الأمور، ولا تتجه للمحرمات الاجتماعية كما هي اليد السائبة من غير عمل يشغلها أو وظيفة تلزمها كما يؤكد الشيخ السبعيني في سوق الخضار "مسفر الجهني"، الذي يستشهد بقصص من الماضي جرت في عصره جعلت الصبيان الذين أنهوا للتو عقدهم الأول شبانا يافعين يمتلكون القدرة على تحمل المسؤولية لا كما نشاهد اليوم - يقولها بامتعاض – شبان أطول من آبائهم لا تستطيع أن توكل إليهم أبسط الأمور التي كانت توكل للطفل في أيامهم.
هذه من الأسباب الثقافية التي يختزنها المجتمع وتقود إلى قبول الأمر بل والنظر بإعجاب أحيانا إلى هؤلاء الأطفال الأبطال الذين يبدون كما لو كانوا أبطال روايات الكرتون التي تدافعت على قيم المجتمع في العقدين الماضيين، ليبدو الصغير كما لو كان عدنان الذي يمخر البحار أو كجيمي الطفل العجيب في جزيرة الكنز الذي يرافق قطاع الطرق البحرية في رحلة البحث عن الكنز!
غير أن الأكيد أن كثيرين من هؤلاء الأطفال لا يملكون حق الترف بوجود أسباب ثقافية كهذه، فهم فقط مضطرون لأسباب اجتماعية قاهرة، فالفقر المدقع واليتم المبكر وانعدام الترابط والتكافل الاجتماعي أو ضعفه إلى جانب الجهل المفرط يقف وراء تدفقهم على الأسواق والمحال التجارية إن لم يكن ساحات التسول.
التسول... الساحات الأقذر لاستغلال الأطفال
ربما سيكون المثالان الماضيان لنقاط عمل الأطفال في أسواق الخضار ونقاط الإشارات مكانين مثاليين بالمقارنة بساحات التسول فهي الأكثر بشاعة بكل مقاييسها السيئة على الفرد والمجتمع وفقا للطبيب النفسي محمد عيسى فإلي جانب كونها أخذ من دون عطاء يستمرؤه الطفل مع تقادم الأيام فهي إلى ذلك أدعى إلى الاستغلال النفسي والجسدي من جانب ضعاف النفوس.
وضعاف النفوس والذين هم على أحد جانبين جانب يدفع بالطفل الضعيف إلى حيث نقاط التسول فإن كان ذا عاهة خلقية فالطرق إلى المساجد جيئة وذهابا هي الأفضل للعمل وهو الأمر الذي تتم ملاحظته عند الذهاب إلى الحرمين الشريفين خصوصا في المواسم وإن كان سليما معافى فهو يدفع إلى الوقوف في نقاط تسول مبتكرة وخطيرة تعرضه إلى جانب آخر من استغلال ضعاف النفوس ومثال ذلك نقاط الصرف الآلي.
أن يقف بانتظارك طفل وأنت تشرع في عملية الصرف الآلي لتخرج أوراق النقد الكبيرة من الجهاز الذي وقف بجواره طفل ينتظر "نصيبه" من العملية ونصيبه لا يتعدى الطمع في تناول بقية النقد الصغير الذي كان في الجيب قبل العملية ولم تعد تهتم به مع انتفاخ الجيب بشقيقاتها من الأوراق النقدية الكبرى فيكون العطاء أولى وأقرب إلى قرارك ليأتي السؤال.. من علمهم هذه الطريقة المحترفة في اقتناص الزمان والمكان؟
و يأتي السؤال الأهم إن كان هذا الطفل قد استدر عاطفتك لتعطيه القليل الذي طلب أو استطعت أن تغالب شعورك لتهمل يده الممدودة فهل الجميع يفعلون ذلك بطريقة متحضرة ؟ ليأتي الجواب واضحا وتلقائيا أن هؤلاء الأطفال الذين يعملون في هذا المجال تحديدا هم الأكثر عرضة للاستغلال وهم في سلسلة طويلة من سلاسل الاستغلال التي تبدأ من تشويه أجسامهم عن طريق عصابات إفريقية جرت متابعتها أمنيا في الفترة الماضية, إلى محاولة وضعهم في أماكن تسهل انجرافهم إلى عوالم الرذيلة المختلفة التي تهيئهم ليكونوا مجرمين محترفين أو مرضى حاقدين.