مَن "يقتل" الفقر في قرى الليث؟!

مَن "يقتل" الفقر في قرى الليث؟!

مَن "يقتل" الفقر في قرى الليث؟!

تشكل صورة الفقر المدقع القاسم المشترك لسكان القرى المحيطة بمحافظة الليث حيث يقطن تلك القرى أكثر من خمسة آلاف فرد, يعيش نصفهم في بيوت مشيدة من صفائح معدنية أو تحت سقف من الخيام المقامة على جذوع الشجر.
ويكاد شكل الحياة هناك يكون متشابهاً في أسلوب العيش, حيث اعتاد سكان تلك القرى بداية يومهم قبل صلاة الفجر على أن ينتهي ذلك اليوم مع حلول الظلام.
وعلى الرغم من شكل هذه الحياة البسيطة التي يعيشونها إلا أن هناك أخطارا عدة تحيق بسكان تلك القرى لعل أبرزها يتعلق برواج تجارة المخدرات بين قراهم, ويعد مروجوها تلك القرى أرضاً خصبة في تحقيق نسبة مبيعات أكبر من مناطق مأهولة أخرى, حيث قال سكان محليون إن انعدام فرص العمل في المنطقة دفع شباباً من المنطقة نفسها وخارجها إلى المتاجرة بالمخدرات. ويذكر لنا أحد السكان، رغب في عدم ذكر اسمه، أن عدم وجود مركز للأمن في القرى المحيطة بمحافظة الليث كان سببا جوهريا في رواج بيع هذه الآفة إلى أن وصل الحال ببعض المتاجرين بها إلى عرض بضاعتهم على العابرين عن طريق الساحل، كذلك من تاه وسلك طرقاً أخرى داخل الصحراء.
وأشار إلى أن الجهل وانعدام الوعي لدى كثير من هؤلاء المروجين جعلهم لا يدركون خطورة ما يقومون به أو حتى حكمه في الشرع, كما أن الحالة المادية التي يعيشها أغلب سكان هذه المناطق دفعت الشبان إلى القيام بالمتاجرة في المخدرات, مطالباً في الوقت نفسه بتكثيف مراكز الشرطة وتفعيل دور مكافحة المخدرات في مثل تلك المناطق النائية.

100 ريال حصيلة أسبوعية لأسرة مكونة من 12 فرداً

تأتي مشكلة الدخل المادي ثانياً في سلم مشكلات تلك القرى منزوعة الخدمات, حيث يبلغ متوسط دخل الأسرة المكونة من 12 فرداً في هذه القرى نحو 100 ريال أسبوعياً تعيش في أغلبها على بيع الأغنام وكذلك الحطب, حيث ذكر لـ "الاقتصادية" عطية الجحدلي أن مثل هذه الأعمال لم تعد مربحة ولا تفي بمتطلبات الأسر في هذه القرى، فأكثر الأسر هنا لا تجعل أبناءها يذهبون إلى العمل خارج المنطقة، ويريدون من أبنائهم البقاء لمشاركة آبائهم عبء الحياة والقيام بمساعدتهم على الأعمال الأساسية مثل بيع الأغنام وبيع الحطب ما أسهم في انخفاض مستوى الدخل لدى الأسر في هذه القرى.
وأرجع الجحدلي انخفاض الدخل إلى أسلوب الحياة الذي يتبعه سكان المنطقة حيث ظلوا محافظين على تربية أغنامهم دون التفكير في طرق باب أعمال أخرى ما أصاب عملهم هذا بالكساد كون أكثر السكان يشتغلون في مجال الأعمال نفسها.
في حين كشف عائض الجحدلي الذي التقته "الاقتصادية" في غرفة شيدت من صفائح معدنية, أنه يعمل في مجال رعي الأغنام الذي لم يعد يوفر له الدخل المادي المناسب مثل السابق, وأشار إلى محاولته المتعثرة في التسجيل في الضمان الاجتماعي الذي سمع عنه قبل فترة قصيرة، لكن عدم وجود وسيلة نقل حالت دون تنفيذ ما يعتزم القيام به.

أهالي القرى معزولون عن التطور التقني الذي تعيشه المملكة

تشكو المنطقة من ندرة في جميع حزم الخدمات حيث تفتقر إلى وجود مركز صحي بالقرب من بعض هذه القرى ما جعل الوضع الصحي لكثير من الأفراد لا يبدو جيداً بالنسبة إلى أقرانهم في القرى التي تقترب من طريق الساحل الرئيسي الذي يصل غرب المملكة بالجنوب .
وأبان الجحدلي أن المسجد الرئيس لقرى المنطقة الذي يقع في شرق قرية السعدية وتقام فيه صلوات الجمعة والعيد والاستسقاء يعتمد على أئمة متطوعين يقومون بدور الإمام الأساسي, مشيراً إلى أن عاملا من إحدى الدول العربية, ويعمل في مزرعة قريبة, يقوم بهذا الدور على الرغم من عدم توافر الشروط التي تخوله لكي يكون إماما يخطب في المصلين يوم الجمعة وغيرها من الصلوات التي تتوافر الخطبة فيها .
ولاحظت "الاقتصادية" لدى مرورها ببعض الخيام والمساكن المشيدة من صفائح معدنية التي تنتشر في صحراء تلك المنطقة, أن قاطنيها لا يفقهون في أمور الحياة التي تجري من حولهم, حيث لا يتوافر لديهم كهرباء أو أي من وسائل الاتصال, إذ يعتمدون على أجهزة الراديو القديمة الصنع في استقاء المعلومات. "الاقتصادية" بادرت بسؤال فالح يقترب عمره من سقف الثمانين قال إنه لا يعلم شيئا عما يحيط به، وذلك لكبر سنه وعدم رغبته في إشغال تفكيره بهذه الأمور, مركزا اهتمامه على رعي الأغنام التي لديه والتي لا تتجاوز 20 رأسا, بينما قال الشاب هلال إنني أستمع إلى الراديو في متابعة الأخبار التي تدور في العالم الخارجي, ويعد الراديو صديقي الذي يؤنسي في هجيع الليل.
كما لفت انتباهنا وجود العم صلاح وهو من الجنسية اليمنية ويعيش في قرية عواهة بالقرب من محافظة الليث منذ 40 عاما، متزوج من إحدى بنات هذه القرية حيث يعد بمثابة شركة كهرباء متنقلة في القرية. وتدور قصة هذا الرجل عندما أتى إلى هذه القرية منذ 40 عاما وعمل مع أحد المواطنين في رعي أغنامه حيث بدأ في جمع الأموال حتى استطاع أن يشتري مولدا كهربائيا يقوم بتأجيره لسكان القرية والقرى المجاورة التي تفتقر إلى الكهرباء, ونمت تجارته حتى استطاع أن يتزوج من إحدى بنات القرية في ذلك الحين، واستطاع أن يندمج معهم في حياتهم ولا يزال يمتهن هذه المهنة حتى يومنا هذا، ويساعده أبناؤه على توصيل المولد إلى المستأجرين في قراهم.
كما أن المستوى التعليمي لدى سكان تلك القرى أسهم في عدم محاذاتهم التطور الذي تشهده المملكة, حيث يصل المستوى التعليمي لأغلب سكان هذه القرى إلى المستوى الابتدائي, وذلك نتيجة عدم إكمال دراستهم رغبة في توفير لقمة العيش بمساعدة أهاليهم على جلب الحطب ومن ثم بيعه للمحال المنتشرة على قارعة الطريق.

الصفائح المعدنية وأقمشة بالية .. منازل سكان القرى المحيطة بالليث

يسكن كثير من هذه الأسر إما في مساكن اعتمدت في بنائها على الصفائح المعدنية أو ما يُعرف في اللهجة الدارجة بـ (الصنادق) وإما في بيوت من الشعر أقيمت على بعض الأشجار التي تشكل خطراً كبيراً، حيث إنها تعد مخبئا لكثير من الأفاعي المنتشرة في المنطقة، لكن على الرغم من تلك الخطورة فإن أسراً عديدة لا تزال تتشبث بالسكن في مثل هذه المساكن.
وكشف لـ "الاقتصادية" سنان بن سليم أن كثيرا من الأسر تركت المساكن الخيرية التي شيّدها في بعض القرى فاعلو خير في وقت سابق, مضيفاً أنهم تركوا هذه المساكن التي بُنيت من الصخر والأسمنت وعادوا مرة أخرى إلى السكن في غرف من الصفائح المعدنية أو في خيام بالقرب من أغنامهم, معللين ذلك بأن هذه المساكن تبدو جيدة في فصل الشتاء لكنها قاتلة في فصل الصيف لعدم ملاءمة بنائها فصل الصيف الحار في هذه القرى.
وأضاف سنان أن بعض هؤلاء السكان قاموا بتأجير هذه المساكن لأشخاص آخرين من العمالة التي تعمل في بعض المزارع القريبة من طريق الساحل أو لبعض الأشخاص من القرية نفسها بحثاً عن الاستفادة المادية ولو اضطروا إلى النوم في العراء.

الحفاظ على كرامة الموتى .. أبرز مطالبهم

ويبدو أن الموت في هذه القرى لا يعد إكراماً للميت لعدم وجود مقبرة واضحة المعالم, حيث اعتاد سكان هذه القرى ـ بحسب عبد الله بن ردود ـ على غسل الأسرة ميتها ودفنه بطريقة بدائية وفي قبر غير واضح المعالم, مشيراً إلى قصة يرويها السكان باستمرار عن امرأة من المنطقة نفسها قامت بغسل زوجها بنفسها ودفنه قبل أن تغادر المكان صبيحة اليوم الثاني مع أغنامها إلى منطقة أخرى. ويعزو ابن ردود عدم قيام السكان بعمل مقبرة أو تحديد منطقة لدفن موتاهم، إلى عدم توافر الإمكانات اللازمة لذلك. كما أن مناخ المنطقة المملوءة بالأتربة التي يحملها الهواء باستمرار سيقضي على أي تحديد لمكان من هذا النوع, إضافة إلى انصراف أغلب السكان في متابعة أعمالهم المجهدة والبحث عن لقمة العيش رغم صعوبة الحصول عليها في مثل هذه القرى, مطالبا الجهات المعنية ببحث إمكانية الحفاظ على كرامة موتاهم والتي انتشرت قبورهم في الصحراء دون وجود مكان واحد وواضح يجمع موتاهم.

هايبر ماركت في وسط الصحراء .. ومجلس خيري يؤوي فقراء المنطقة والعابرين
واسترعى انتباهنا في إطار جولتنا في تلك المنطقة وجود ما يشبه (الهايبر ماركت) يتوسط الصحراء الخالية والمشيد على مساحة متر في مترين ويعمل فيه عامل من إحدى الجنسيات العربية ويضم هذا المكان مواد غذائية بعضها انتهت صلاحيته منذ فترة طويلة, كما يضم إطارات سيارات لم تستعمل بعد, إضافة إلى بعض المنظفات وكذلك أدوية بيطرية وبعض المشروبات الغازية والمياه المعدنية الحارة، وذلك لعدم وجود جهاز تبريد لها لكون خدمة الكهرباء لم تصل إلى المنطقة, إضافة إلى أوان منزلية تحظى بكمية من العيوب التي تجعلها غير صالحة للاستعمال.
وقال لـ "الاقتصادية" العامل إدريس أعمل في مزرعة قريبة من هنا تتطلب وجودي فيها يومين في الشهر، لكن هذا المكان يبدو خيرياً أكثر من أن يكون ذا هدف ربحي, أكثر دخل وصلت له كان 13 ريالا قبل أسبوعين, والإطارات التي تراها أمامك أغلبها يذهب كمساعدة لأناس تربطنا بهم علاقة جيدة عدا ذلك نجد قليلين من الرعاة أو سكان منتشرين حول المنطقة يقصدنا للشراء.
كما لفت انتباهنا وجود مجلس بمثابة السبيل للأهالي الفقراء والمحتاجين وفر فيه الوجبات الثلاث من إفطار وغداء وعشاء, كما أنه يعد مكانا لتجمع كبار السن الذين يقضون فيه أوقات فراغهم ويسترجعون الذكريات.
وذكر لـ "الاقتصادية" أبو ساري صاحب الامتياز في فكرة المجلس، أن هناك أسبابا كثيرة جعلته يضع هذا السبيل، منها: خدمة الفقراء الذين يجدون صعوبة في توفير طعامهم, وكذلك توفير مكان مناسب لاجتماع رجال القرى القريبة في مجلس يضم كبار السن ويغري الأبناء بمجالستهم ليستمعوا إلى أحاديثهم والى القصص التي حدثت لآبائهم وأجدادهم، في محاولة للحفاظ عليهم من الاختلاط بجلساء السوء, الذين يكثر تجمعهم في تلك المنطقة.
قرى الليث فقط تحتاج إلى لجان تقف وتنقل بكل أمانة ومصداقية حجم احتياج الأهالي من مصحات ومراكز تعليمية ومركز حضري يسعى إلى لمّ شتاتهم من هذه الصحراء وتعليمهم الدين الإسلامي وتثقيف هؤلاء المنسيين على خريطة التطور والحياة، أحوج اليوم إلى وقوف لجان حقيقية تنقل معاناتهم واحتياجاتهم.

الأكثر قراءة