القفز المستمر!
قلم الكاتب والصحافي ممدوح المهيني "يقفز" على المواضيع الشائكة والحادة برشاقة لا تجرح ولا تغضب، رغم أن الحديث في مواضيع مشابهة يجلب الصخب الإعلامي والتعقيبات المتزنة وغير المتزنة. تقارير المهيني اتسمت، إلى جانب الموضوعية والاحترافية، باختيار التفاصيل الدقيقة في حياة الفرد السعودي وطرحها بصورة "أفقية" بسيطة وغير جارحة. نختار هنا مقاله المنشور في جريدة الرياض بتاريخ الحادي والعشرين من جمادى الآخرة الجاري. والذي جاء تحت عنوان "القفز المستمر".
يعيش السعوديون لحظات اضطراب كبيرة في حياتهم وعندما يسافرون فإنهم يتعرضون أكثر لمثل هذه الاضطرابات ولكنهم مع ذلك يبدون سعيدين لأن لديهم قدرة أن يتجاهلوا كل ما يمكن أن يسبب لهم الارتباك ولكنها تعلق في داخلهم.
إن نسبة كبيرة من السعوديين مغرمون بمشاهدة القنوات الغنائية والأفلام السينمائية، ولكن مع ذلك فإن غالبيتهم يعتقدون في أعماقهم أنهم يقومون بأمور خاطئة ويقدمون الوعود السرية لأنفسهم بأنهم سيتوقفون عن هذه الممارسات ولكنهم غير قادرين على أن يفعلوا ذلك. ومن المؤكد أنهم غير قادرين على أن يتوقفوا ليس لأنهم ضعفاء ولا سيئين ولكن لأنهم مرتبطون كثيراً مع واقعهم الحالي ولا يستطيعون مقاومته. والفكرة البسيطة التي يجب أن يقتنعوا بها هي أنهم غير مخطئين ولا مذنبين بالأشياء التي يفعلونها وسيجعلهم ذلك يشعرون بالراحة الوجدانية والعقلية. ولكن خلف هذه الفكرة البسيطة يقع العمل الأصعب. وهو مواجهة الأفكار القديمة التي جعلت الشخص يعيش أحاسيس تأنيب الضمير واستبدالها بالأفكار الجديدة.
إن المشكلة الرئيسية التي نواجهها وهي التي تجعلنا نقع بمثل هذه الاضطرابات وغيرها كثير هو أننا نفكر بطريقة ضيقة ومتشابهة لحد كبير ونعتقد أنها الطريقة الصحيحة التي سنموت ونحن نؤمن بها. ولكن لا نجيب على سؤال لماذا لم تقم هذه الطريقة بإيجاد حلول لنا غير أشعارنا بأننا مخطئين وتعذيب ضمائرنا بشكل مستمر؟! عندما أتى السائقون لم نجد أي مخرج في طريقة التفكير هذه واضطررنا للقفز عليها ومنذ سنوات طويلة لم نعثر على حل ومازال الشعور بالقفز الأول يلاحقنا. عندما ارتدت نساؤنا عباءات مطرزة لم نجد أي منفذ واضررنا أيضاً على القفز من جديد.
الأولاد الصغار الذين يعتنقون تفكيرنا بصورته النقية الأولى هم أكثر من يعبِّر عنه عندما يطلبون من إخواتهم ألا يلبسن عباءات مطرزة أو ألا يذهبن مع السائق ولكن لأنهم صغار يفعلون ذلك وعندما يكبرون سيقفزون مثلنا "يقول أحد الأصدقاء أن شقيقه الصغير كان يرفض كلما أرادت أخته الذهاب مع السائق ويقول انه أمر معيب وخاطئ. وكان يضطر من أجل ذلك أن يقوم هو بتوصيلها ولكنه تعب بعد مدة من هذا الأمر وأصبحت شقيقته تذهب مع السائق أمامه بدون أن يقول شيئاً. من المؤكد أنه يشعر بالاضطراب مثلنا ولكن لم يكن أمامه إلا أن يقفز من فوق السور).
إن هذا الأمر يحدث أيضاً عندما نسافر في الخارج. إننا نقفز عندما تكشف نساؤنا وجوههن ونقفز عندما ندخل في مطاعمهم المختلطة والتي تصدح بالموسيقى ونقفز عندما نذهب للشواطئ المفتوحة.
إن القفز هو حل سريع وليس علاج دائم. وهو مؤلم لأنك ستشعر أن الأشياء التي تحبها هي خاطئة ولكن لا تستطيع التوقف عنها. إنك لا تستطيع أن لا تسافر ولا تمنع الدش من بيتك ولا أن تستغني عن السائق. إن كل هذه إذا لاحظنا افكاراً جديدة لذا فإن الطريقة القديمة التي كنا نؤمن بها لم تعد صالحة. إنها بحاجة إلى التطوير وبدل أن تكون ضيقة تصبح منفتحة وبدل أن تركز فقط على الشكل تصبح أكثر تركيزاً على الداخل وبدل تكون طريقة تطلق الأحكام تصبح تحليلية أكثر. مثلاً بدل أن تشعر بتأنيب الضمير أنك تشاهد فيلماً سينمائياً عليك أن تتخلص من هذا الشعور بمساعدة طريقة تفكير جديدة تبرر لك بشكل منطقي مشاهدة الأفلام. ولأن مشاهدة الأفلام هي قضية حديثة بالنسبة لنا فإنك بحاجة إلى طريقة تفكير أيضاً حديثة كي تستوعبها. وهكذا يحدث في القضايا الأخيرة. ولكن هذه العملية الصعبة بحاجة إلى أن يقوم الشخص بخوضها بنفسه وذلك بالقراءة والاطلاع. فهو في النهاية من سيشعر بالانسجام مع عالمه الجديد ويتوقف عن القفز الذي هو في الحقيقة سعادة مرضية.