في ظل إدارة جديدة

في ظل إدارة جديدة

يأتي معظم السياح إلى مدينة Dresden لمشاهدة العجائب المعمارية للمدينة. فعلى سبيل المثال، لا تظهر كنيسة Frauenkirche، التي تم إعادة بنائها بصورة رائعة، أي دلالة تشير إلى أن قبتها الضخمة انهارت تحت قصف القنابل البريطانية. إلا أن عاصمة ولاية Saxony الألمانية فيها أيضا مزيد من معالم الجذب السياحي المعاصرة - على الأقل بالنسبة للسياح الذين يهتمون بالنواحي التقنية. وتعد مركز أحد كبار التكتلات التكنولوجية في أوروبا. وتتفاخر منطقة Silicon Saxony، كما أصبحت تسمى، بوجود 1.500 شركة للتكنولوجيا العالية توظف 43 ألف شخص، معظمهم في صناعة أشباه الموصلات.
ولكن على السياح الصناعيين أن يسرعوا. فقد تلقت Silicon Saxony أخيرا بعض الضربات التي أضعفت أسسها. ففي الأول من نيسان (أبريل)، جمدت شركة Qimonda، التي تصنع رقاقات الذاكرة وأكبر شركة توظف موظفين في التكتل، مصنعها، بعد أن اضطرت إلى إعلان إفلاسها في وقت سابق من هذا العام. والأمل الأخير لها هو أن يتم شراؤها من قبل مستثمر خارجي يتم إغراؤه بتقديم المال له من قبل حكومة Saxony. وشركة Inspur الصينية لتصنيع أجهزة الكمبيوتر هي بين الشركات التي عبرت عن اهتمامها بشركة Qimonda، التي طورت تكنولوجيا متطورة.
وفي Dresden، هناك مصنع لتصنيع الرقاقات يعد مؤشرا على تغيير آخر قد يتبين أنه مدمر بالقدر نفسه. فهناك شعار جديد تم وضعه عند المدخل: لم يعد وجود الزائرين أمرا مرحبا به في AMD بل في Globalfoundries. وفي العام الماضي، قررت شركة AMD، التي تصنع المعالجات الدقيقة لأجهزة الكمبيوتر الشخصية، اشتقاق شركة منفصلة من مصانعها لتصنيع الرقاقات وبيع حصة أغلبية إلى صناديق الاستثمار التي تسيطر عليها حكومة أبو ظبي. ويخشى البعض أن ينتقل قدر كبير من الإنتاج في النهاية من Dresden إلى الخليج.
وقد حول الموت المحتمل لشركة Qimonda ومولد Globalfoundries منطقة Silicon Saxony إلى مثال صناعي بارز من نوع مختلف جدا. فهو رمز واضح لقوة الضربة التي أضرت بصناعة أشباه الموصلات جراء الركود في جميع أنحاء العالم، والتي كانت قد ضعفت أصلا بسبب إحدى فترات انكماشها الدورية. والمهم بالقدر نفسه هو أنه يظهر الاضطرابات على المدى الأطول في الصناعة. فقد أصبحت صناعة أشباه الموصلات أقل تكاملا رأسيا وأكثر تركيزا. كما أن مركز جاذبيتها يتحول نحو الشرق.
وعلى الرغم من أن هناك بعض الدلائل التي تشير إلى أن الأسوأ قد يكون انتهى - ارتفعت أسعار أسهم شركات تصنيع الرقاقات الآسيوية أخيرا بعد توقع حدوث نقص - إلا أن الصناعة لا تزال تمر بأطول ركود لها في تاريخها منذ 50 عاما. وإذا كان الباحثون المتخصصون في السوق على حق، فستتقلص مرة أخرى عام 2009 قبل أن تستأنف النمو عام 2010. وتعتقد شركة iSuppli، وهي إحدى شركات الأبحاث لتوقع اتجاهات السوق، أن الإيرادات ستنخفض بنسبة تزيد على 20 في المائة هذا العام، لتصل إلى 205 مليارات دولار. وهناك مراقبون آخرون للسوق خرجوا بتوقعات كئيبة بصورة مماثلة.
ولفهم أسباب تضرر صناعة أشباه الموصلات إلى هذه الدرجة، فكر في الدارات المتكاملة (أي الرقاقات) ولكن ليس بوصفها قطع سيليكون صغيرة جدا محفورة على ملايين الترانزستورات، بل بوصفها موردا أساسيا. فقبل مضي فترة طويلة، سيأتي كل شيء من صنع الإنسان مع واحدة على الأقل من الرقاقات الدقيقة التي ستكون جزءا لا يتجزأ منه. وقد وصف Jerry Sanders، مؤسس AMD، الرقاقات بأنها "النفط الخام للصناعة". ويبدو هذا الوصف ملائما: أصبحت الدارات المتكاملة أساس اقتصاد المعلومات. أما الجانب الآخر فهو أن شركات تصنيع الرقاقات أصبحت تعتمد بصورة متزايدة على صحة بقية الاقتصاد.

دورة الرقاقات
يقع بعض اللوم أيضا على اقتصاد الصناعة نفسها. فقد كان سيسبب المشكلات حتى لو لم تحدث مشكلات العالم الأوسع. ولشرح ذلك، يشبّه Dan Hutcheson، الرئيس التنفيذي لشركة VLSI Research الاستشارية، تصنيع أشباه الموصلات بصناعة مختلفة، وهي الزراعة. فلا بد من اتخاذ القرارات الاستثمارية قبل وقت طويل من بيع المنتجات. ويجب أن ينفق مزارعو الرقاقات المليارات وينتظروا عدة سنوات قبل البدء بوضع الدارات على "الرقاقات الرقيقة"، وهي الأقراص الرقيقة لمادة أشباه الموصلات، التي يبلغ حجمها حجم البيتزا والتي يتم تقطيعها إلى مئات الرقاقات في نهاية عملية الإنتاج.
ويفسر هذا إلى حد كبير سبب ميل صانعي الرقاقات، مثل المزارعين، إلى زيادة العرض في السوق، خاصة إذا كانوا يبيعون رقاقات الذاكرة، وهو منتج غير متمايز (مثل القمح الشتوي). وحتى لو انخفضت الأسعار لتصبح أقل من التكاليف، فمن مصلحتهم إبقاء مصانعهم لتصنيع الرقاقات شغالة، من أجل عدم خسارة الاستثمار الكبير الذي نفذوه مقدما ومن أجل استرداد التكاليف المتغيرة. والأهم من ذلك هو أنهم عالقون على "جهاز المشي التكنولوجي"، على حد تعبير Hutcheson. وتجبرهم المنافسة دائما على استخدام أحدث تكنولوجيا، مما يزيد الناتج ويفرض ضغوطا على الأسعار.
وأخيرا، تماما كما هو الحال في الزراعة، تغذي الحكومة هذا الميل الفطري لزيادة العرض. ولطالما وجد السياسيون سببا لدعم صناعات أشباه الموصلات في دولهم، مثل الفخر أو الأمن القومي أو السياسة الصناعية أو حتى لمجرد الرغبة في إيجاد الوظائف، والشكل الرئيسي لهذا الدعم غالبا ما يكون المال. فقد تلقت Silicon Saxony مثلا أكثر من 1.5 مليار يورو (نحو ملياري دولار بأسعار الصرف الحالية) من ولاية Saxony فقط، والكثير منه لإقناع AMD بالاستثمار فيها.
إلا أن الحكومات الآسيوية هي الأكثر نشاطا. وبفضل السياسة الصناعية لتايوان، يتم الآن تصنيع أكثر من نصف رقاقات العالم هناك. كما أن الدعم الذي تقدمه حكومة كوريا الجنوبية جعل شركتي Samsung وHynix أكبر شركتين في العالم لتصنيع رقاقات الذاكرة؛ وتزودان نحو 50 في المائة من هذه الشريحة. ويبدو أن الصين عازمة على تحويل شركات أشباه الموصلات فيها إلى شركات رائدة في السوق بأي ثمن تقريبا، خاصة Semiconductor Manufacturing International Corporation. ويفسر كل هذا السبب في أنه من بين الأربعين مصنعا لتصنيع الرقاقات التي تحت الإنشاء في عام 2007، كان 35 منها في آسيا، وثلاثة في أمريكا، واثنان فقط في أوروبا.
وليس من المستغرب أن يفوق العرض الطلب أحيانا. فمنذ عام 2002 حتى العام الماضي، استثمرت شركات تصنيع رقاقات الذاكرة الآسيوية بصورة خاصة مبالغ كبيرة كما لو أن رأس المال كان مجانيا- مما يفسر السبب في كون الجميع يخسر الآن أموال طائلة. وفي تموز (يوليو) 2007، كان سعر رقاقة ذاكرة الوصول العشوائي الديناميكية DRAM التي تبلغ سعتها 512 ميغابيت أكثر من دولارين. وفي مطلع نيسان (أبريل)، بلغ نحو 50 سنت. ولا تستطيع شركات التصنيع الأصغر مواكبة ذلك. فقد تراكمت الخسائر في Qimonda مثلا لتبلغ نحو 1.5 مليار يورو بين تشرين الأول (أكتوبر) 2007 وحزيران (يونيو) 2008. وبلغت عائداتها 1.3 مليون يورو فقط.
وبالنظر إلى حجم الخسائر وصرخات الصناعات الأخرى، تبدو الحكومات أقل ميلا للمساعدة هذه المرة. وقد بدأت حتى تايوان تشعر بالتردد بشأن تطبيق خطة طموحة لإنقاذ صناعة رقاقات الذاكرة، التي تم الإعلان عنها الشهر الماضي فقط. والفكرة هي دمج وإنقاذ شركات تصنيع رقاقات الذاكرة في الدولة البالغ عددها ست، والتي خسرت 12.5 مليار دولار خلال العامين الماضيين وتراكمت عليها ديون بلغت 11 مليار دولار.

وحتى لو تركت تايوان هذه الشركات تفشل، وهو أمر مستبعد جدا، فسيظل العرض أكثر من الطلب، وذلك وفقا لشركة iSuppli. ولن تبدأ المبيعات العالمية لرقاقات الذاكرة بالزيادة مرة أخرى قبل العام المقبل. ولن يبلغ النمو مستوياته لعام 2006 قبل عام 2015.
وبغض النظر عما سيحدث لشركة Qimonda ومنافساتها التايوانيات، فمن المؤكد أن الأزمة الحالية ستسهم في تسريع اتجاهين طويلي الأجل يبدوان متناقضين في الصناعة. فهي تسهم في الدمج، حيث بدأ تصنيع الرقاقات يتركز بين عدد أقل من الشركات. وفي الوقت نفسه يسهم في التقسيم، حيث بدأ عدد أكبر من الشركات بالتخصص في التصميم، والتعاقد مع جهات خارجية أو التخلي عن تصنيع الرقاقات. وهذان التطوران هما أساسا نتيجة ما أصبح يسمى "قانون مور الثاني"، وهو نظير اقتصادي لملاحظة معروفة من قبل غوردن مور، أحد مؤسسي شركة Intel، أكبر شركة تصنيع رقاقات في العالم من حيث الإيرادات.
ويمكن تلخيص قانون مور الأصلي بهذا الشكل عادة: يتضاعف عدد الترانزستورات على الرقاقة كل 18 شهرا. وفي الواقع، تنبأ مور أولا أن هذا سيحدث كل عام، وغير توقعاته لاحقا لتصبح كل عامين؛ وأصبح المتوسط قانونه. ويشير Hutcheson إلى أن مور قدم أكثر من مجرد توقع تقني. فقد ذكر أيضا أن تكلفة الدارة المتكاملة ستظل كما هي، تخفيض التكلفة لكل ترانزستور مع كل مضاعفة للعدد.
وقد تبين أن هذا صحيح أساسا، إلا أن التقدم كان له ثمن مرتفع. فالمعدات المتطورة اللازمة لتصنيع أشباه الموصلات تصبح أغلى مع كل تكرار لقانون مور. ويتم تصنيع أكثر الرقاقات تطورا باستخدام تكنولوجيا 32-نانوميتر، مما يعني أن الترانزستورات صغيرة جدا الآن بحيث إن أكثر من أربعة ملايين قد تتسع في نقطة صغيرة. وتكلف المعدات الليثوغرافية لنقل مجموعة دارات صغيرة جدا على رقاقة رقيقة 50 مليون دولار. ولتحقيق وفورات الحجم اللازمة لكي تأتي مثل هذه الاستثمارات بفوائدها، يجب على شركات تصنيع الرقاقات بناء مصانع أكبر لتصنيع الرقاقات.
وقد أدى ارتفاع التكاليف الثابتة إلى ظهور قانون مور الثاني: مع انخفاض تكلفة الترانزستورات، ترتفع تكلفة مصانع تصنيع الرقاقات، وإن كان ليس بنفس السرعة تقريبا. وفي عام 1966، كان مصنع تصنيع الرقاقات الجديد يكلف 14 مليون دولار. وبحلول عام 1995، ارتفع السعر إلى 1.5 مليار دولار. وتقول شركة Intel إن تكلفة بناء مصنع تصنيع رقاقات متطور اليوم تتجاوز ستة مليارات دولار، بما في ذلك الأعمال التحضيرية. وقد بنت شركة Semiconductor Manufacturing Company التايوانية مصنعين ضخمين لتصنيع الرقاقات بتكلفة بلغت ثمانية مليارات دولار وعشرة مليارات دولار لكل منهما، وهو مبلغ يمكن به شراء أربع محطات للطاقة النووية. ويعتمد ناتج مثل هذه المصانع الضخمة على مزيج من المنتجات، ولكن يمكن أن ينتج كل منها بسهولة ثلاثة مليارات رقاقة سنويا.
ويقول Derek Lidow، الرئيس التنفيذي لشركة iSuppli، إن التكاليف المتزايدة باستمرار والحاجة إلى التخصص أدت إلى تفكك الصناعة. وفي البداية، كانت جميع شركات تصنيع الرقاقات متكاملة رأسيا، مما يعني أنها كانت تصمم الرقاقات وتبني المعدات لتصنيعها وتدير مصانع تصنيعها وتضيف الوصلات اللازمة. ومع ارتفاع التكاليف وزيادة تعقيد بعض الأنشطة، امتد نطاقها لتوزع النفقات والمعرفة. ولطالما كان يتم صنع معدات أشباه الموصلات وبرامج التصميم والتغليف من قبل شركات منفصلة. إلا أن السنوات العشر الأخيرة شهدت نشوء شركات "دون مصانع لتصنيع الرقاقات"، والتي تقوم فقط بتصميم الدارات المتكاملة.
ولا تستطيع شركات تصنيع الرقاقات الراسخة اليوم تحمل تكلفة تطوير عمليات تصنيع خاصة بها أو حتى إدارة مصانع خاصة بها لتصنيع الرقاقات. ولتقاسم الألم، اتحدت IBM وSamsung وغيرها لاستخدام تكنولوجيا تصنيع الرقاقات بصورة مشتركة. واختارت بعض الشركات، مثل Texas Instruments، أن تكون لها مصانع خاصة بها لتصنيع بعض الرقاقات فقط. واختارت غيرها، مثل AMD، فصل التصنيع تماما (مع أن قرار AMD مرتبط جدا بنقص السيولة بعد أن اشترت ATI التي تصنع رقاقات رسومية، مقابل 5.4 مليار دولار عام 2006).
ومن هنا جاء ظهور "المسابك"، وهي مصاهر في عصر المعلومات. وهي أساسا شركات تصنيع بالتعاقد. ومع أنها ليست شركات ذات أسماء مشهورة، إلا أنها شركات ضخمة، حيث تنتج نحو ربع أشباه الموصلات في العالم. ولدى أكبرها، وهي TSMC، سعة تصنيع أكبر حتى من سعة شركة Intel. وقد نمت إيراداتها بمعدل سنوي بلغ 13 في المائة منذ عدة سنوات، حيث تجاوزت 10.6 مليار دولار، قبل أن تنخفض بنسبة الثلث تقريبا في الربع الأخير من عام 2008.
وتثبت شركة TSMC أيضا نتيجة لقانون مور الثاني: يجب حتى على أكبر شركات تصنيع الرقاقات الاستمرار بالتوسع. وتمثل شركة Intel اليوم 82 في المائة من إيرادات المعالجات الصغيرة العالمية وتبلغ إيراداتها السنوية 37.6 مليار دولار لأنها أدركت هذا منذ وقت طويل. وفي أوائل الثمانينيات، حين كانت قيمة شركة Intel تبلغ 700 مليون دولار- مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت- لم يكن Andy Grove، رئيس Intel المشهور بجنون الارتياب، يشعر بالرضا. ويستذكر Andy Bryant، المسؤول الإداري للشركة، قائلا: "كان غالبا ما يجول هنا وهناك ويخبر الجميع أن علينا أن نحصل على مليار دولار. فقد كان يعلم أنه يجب بلوغ حجم معين للبقاء في عالم الأعمال".

النمو والنمو والنمو
ويبدو أن Intel لا تزال متمسكة بهذا الشعار، وتستغل الأزمة للنمو أكثر من منافسيها. ففي شباط (فبراير)، قال رئيسها التنفيذي، Paul Otellini، إنها ستعمل على تسريع خططها بنقل عديد من مصانع تصنيع الرقاقات إلى عملية 32- نانوميتر جديدة بتكلفة تبلغ سبعة مليارات دولار على مدى العامين المقبلين. وقال إن هذا سيحافظ على نحو سبعة آلاف وظيفة عالية الأجر في أمريكا. وسيصعب هذا الاستثمار (إضافة إلى Nehalem، رقاقة Intel الجديدة السريعة للخوادم، التي تم إطلاقها في الثلاثين من آذار (مارس) الحياة على AMD، المنافسة الأكبر لشركة Intel في سوق معالجات أجهزة الكمبيوتر الشخصية.
ويشير تطوران آخران على المدى البعيد أيضا إلى مزيد من التركيز في صنع الرقاقات. الأول هو التغير التكنولوجي الذي يتجاوز التغير الذي ينص عليه قانون مور. فقد تم البدء بتشغيل مصانع تصنيع رقاقات مؤتمتة بالكامل. وفي غضون بضع سنوات، ستنتج مصانع تصنيع الرقاقات رقاقات بقطر 450 مليمترا، ويبلغ قطر الرقاقات اليوم 300 مليمتر، مما يجعلها أكثر إنتاجية. ويقول Otellini: "حين يتم إنتاج رقاقات بقطر 450 مليمترا وحين يحدث هذا عند 22 أو حتى 11 نانوميتر، من المتصور أن يلبي مصنع واحد جميع احتياجاتنا كشركة." ولكنه يضيف أن Intel لن تضع جميع مواردها في مكان واحد.
أما التطور الآخر فهو نضوج الصناعة. فقد انخفض نموها السنوي من أرقام ثنائية في منتصف التسعينيات إلى ما متوسطه نحو 5 في المائة منذ ذلك الحين. وقد انخفضت ربحية شركات الرقاقات منذ عام 2004 بشكل مطرد مع تخفيض الكثير من شركات تصنيع الرقاقات الأسعار لتوسيع أسواقها. وفي المستقبل، لن تعود سوى ثلاثة أنواع من شركات أشباه الموصلات، كما يتوقع Lidow: الشركات التي لديها ملكية فكرية فريدة، والشركات التي تكتفي بتصنيع رقاقات السلع، والشركات التي تملك ما يكفي من المال لتحقيق نطاق غير مسبوق.
إلى أي مدى سيتحقق الاندماج؟ يعطي كبار المسؤولون التنفيذيون في الشركات الرائدة، الذين يفضلون عدم ذكر أسمائهم، إجابات متشابهة. فهم يقولون إنه على المدى الطويل سيكون هناك ثلاثة كيانات فقط قادرة على البقاء، على الأقل تلك التي تملك أحدث التقنيات في تصنيع الرقاقات، وهي Samsung في مجال تصنيع رقاقات الذاكرة، وIntel في مجال المعالجات الدقيقة، وTSMC في مجال المسابك. وستكون البقية مشاريع "قومية" تحتاج إلى عمليات إنقاذ حكومية باستمرار.
إلا أن مثل هذه التوقعات قد تكون غير دقيقة بعض الشيء. فبسبب هذه القومية إلى حد كبير، من غير المرجح أن ينتهي الأمر بصناعة أشباه الموصلات بوصفها مجموعة من شبه الاحتكارات. ومن غير المحتمل أن يسمح التايوانيون للكوريين الجنوبيين بأن يكونوا الرواد في مجال رقاقات الذاكرة. وقد تصبح شركة Taiwan Memory Company التي تأسست حديثا، والتي ستستحوذ على ست شركات محلية، نواة شركة عملاقة عالمية للذاكرة. وستتحد مع Elpida Memory، الشركة الوحيدة في اليابان التي تصنع رقاقات الذاكرة. ويقال أيضا إن TMC مهتمة بشراء Qimonda.
أما بالنسبة للمعالجات الدقيقة، فإنه في السوق سريعة النمو لأجهزة netbooks وغيرها من الأجهزة المحمولة، يجب على Intel أن تتنافس مع عديد من شركات "مصانع تصنيع الرقاقات"، التي تصنع عديدا منها رقاقات استنادا إلى تصاميم من شركة ARM البريطانية. والأهم من ذلك هو أنه بعد فصل الإنتاج، "لم يعد زبائننا مضطرون للسؤال فيما إذا كانت AMD قادرة على الاستثمار في الجيل المقبل من التصنيع،" كما يقول Dirk Meyer، الرئيس التنفيذي للشركة. كما أن استثمار أبو ظبي في Globalfoundries هو ليس فقط جزءا من تحضيراتها لعصر ما بعد النفط، بل أيضا جزء من خطة طويلة الأجل لإيجاد بديل "عالمي" للمسابك في تايوان والصين القارية. وستبني الشركة مصنع تصنيع رقاقات في نيويورك وقد تبني مصنع يوما ما في الدولة الخليجية.

وبغض النظر عن العدد الدقيق للشركات، ستكون صناعة أشباه الموصلات عالية التركيز وستهيمن الشركات الآسيوية على جزء كبير منها. هل هذا مهم؟ ربما ليس كثيرا من وجهة نظر اقتصادية بحتة.
ولا شك أن كثافة رأس المال الكبيرة للصناعة حاجز أمام دخول السوق، ومن الناحية النظرية، تعتبر السوق التي فيها عدد قليل فقط من الموردين ممتازة للتلاعب بها. ولكن من غير المرجح أن تتمكن شركات تصنيع الرقاقات من انتزاع رسوم غير متناسبة أو تقييد العرض - أو حتى تحاول فعل ذلك. فللصناعة تاريخ طويل من المنافسة الشديدة. وتشتد هذه المنافسة بصورة خاصة بين الشركات الآسيوية الوطنية المشهورة، التي تلعب الهيبة بالنسبة لها دورا كبيرا. والأهم من ذلك هو أن الشبكة العالمية لصناعة تكنولوجيا المعلومات أكثر ترابطا واعتمادا على بعضها بعضا. فعلى سبيل المثال، إذا أخذت المسابك حصة أكبر من الكعكة، سيصعب على الآخرين في سلسلة القيمة، مثل مصممي الرقاقات، البقاء.
ومن منظور سياسي، قد يكون التحول نحو آسيا أقل أهمية- خاصة بالنسبة لأوروبا. ومع أن أمريكا خسرت الكثير من "العمليات الخلفية" لتصنيع الرقاقات- التغليف والاختبار- لمصلحة آسيا، إلا أنها لا تزال موطن عديد من مصانع تصنيع الرقاقات المتطورة، خاصة تلك التي تديرها Intel. ولا تزال الموارد المالية لشركة Intel جيدة بفضل هيمنتها، إلا أن شركات تصنيع الرقاقات الأوروبية الكبيرة مثل STMicroelectronics (التي بلغت إيراداتها 9.8 مليار دولار عام 2008)، وInfineon Technologies (6 مليارات دولار) وNXP Semiconductors (5.4 مليار دولار) تكافح من أجل البقاء. وقد أعلنت NXP أخيرا إعادة هيكلة مالية لتخفيف عبء ديونها البالغة 6 مليارات دولار.
والأسوأ من ذلك هو أنه خلال السنوات العشر الماضية انخفضت الحصة السوقية لأوروبا في أشباه الموصلات من أكثر من 23 في المائة إلى نحو 15 في المائة، وذلك وفقا لشركة Future Horizons الاستشارية. وقد عدد تقرير جديد أعدته مجموعة European Semiconductor Industry Association، وهي مجموعة ضغط، بعض أسباب هذا التآكل: رفع قيمة اليورو، والإعانات الأكثر سخاء في مناطق أخرى، والإنفاق الأقل على البحث والتطوير. ويخلص التقرير إلى القول إنه إذا لم تتصرف الحكومات بسرعة، ستستمر شركات تصنيع الرقاقات بالاندماج في مناطق أخرى مما سيعرض القدرة التنافسية لأوروبا للخطر.
وعلى الرغم من أن الرقاقات المتطورة عنصر أساسي في عديد من الصادرات الأوروبية، من السيارات حتى المعدات الطبية، إلا أنه من غير المحتمل أن يكون الحل هو الإنفاق السخي من أموال دافعي الضرائب. فقد تم بالفعل إنفاق الكثير على التصنيع، من أجل إيجاد الوظائف. إلا أن هذا النهج لن يكون ناجحا جدا في المستقبل. ومن غير المجدي محاولة الوصول إلى مستوى آسيا في مجال تصنيع الرقاقات.
وعلى الرغم من أن هناك نقصا في الإنفاق على الأبحاث، إلا أن المشكلة الحقيقية هي الافتقار إلى التسويق الناجح. وما تحتاجه صناعة أشباه الموصلات في أوروبا- وقطاع التكنولوجيا فيها ككل- بصورة شديدة هو بيئة أفضل لرجال الأعمال، كما يقول Dan Breznitz من Georgia Institute of Technology، المتخصصة في صناعة تكنولوجيا المعلومات العالمية. ولأن صناعة أشباه الموصلات في أوروبا تهيمن عليها الشركات الهرمية الكبيرة، فإن الشركات التي لا تملك مصانع تصنيع رقاقات لا تزال نادرة. ولكنها تضاعفت في إسرائيل، التي ازدهرت فيها أخيرا ثقافة المبادرة في الأعمال. ويقول Breznitz إن أوروبا لا تزال شديدة التركيز على التصنيع.
وقد تعود أوروبا بقوة، كما يقول البعض، إذا نجحت فكرة قديمة أخيرا: "مصانع تصنيع الرقاقات المصغرة"- وهي وحدات إنتاج صغيرة ومرنة ونشطة. وقد حدثت مثل هذه الثورة من قبل، في مجال الصلب: كانت العملقة في الماضي تبدو مستحيلة، ولكن اليوم يتم صنع الكثير من الصلب في "مطاحن مصغرة" تستخدم الخردة كمواد خام. فهل يمكن أن تتعرض مسابك عصر المعلومات يوما ما لخطر مماثل؟ ربما. إلا أن الخبراء على حق في تشككهم: قد تصبح الترانزستورات أصغر حجما من أي وقت مضى، ولكن في مجال تصنيع الرقاقات، فإن الحجم هو الأهم.

الأكثر قراءة