دعوة للجرأة

دعوة للجرأة

نادرا ما حظي تجمع لأهم السياسيين في العالم بمثل هذه الضجة الكبيرة مثل قمة مجموعة العشرين. فقد جاء قادة دول مجموعة العشرين المكونة من الاقتصادات الغنية والناشئة - الذين كان من المقرر أن يلتقوا في لندن في الثاني من نيسان (أبريل) حين تم إرسال الإيكونوميست للنشر- وهم يحملون طموحات كبيرة لإعادة كتابة قواعد التمويل العالمي وإعادة تشكيل المؤسسات المالية في العالم. وتمثل القمة البداية الدولية لباراك أوباما، وما يزيد من التوتر هو أنها تزامنت مع احتجاجات صاخبة مختلفة لمناهضة الرأسمالية. ولكن على الرغم من هذه الأحداث السياسية المثيرة والمواقف والفخر والطموحات الضخمة، إلا أن التاريخ سيحكم على قادة مجموعة العشرين وفقا لمعيار أكثر وضوحا. فهل يفعل هؤلاء الأشخاص، الذين يديرون فيما بينهم نحو 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، كل ما يلزم لمكافحة أسوأ ركود عالمي منذ 80 عاما؟
ومن الصعب المبالغة بما هو على المحك حاليا. فمنذ أن عقد قادة مجموعة العشرين اجتماعهم الافتتاحي في واشنطن العاصمة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تراجع الاقتصاد العالمي بسرعة كبيرة. وقلل المستهلكون إنفاقهم، وخفضت الشركات إنتاجها، وأجلت الاستثمارات واستغنت عن ملايين العمال. ولا يزال النظام المالي معطلا. وتتقلص التدفقات التجارية بأسرع وتيرة لها منذ الحرب العالمية الثانية، ما تسبب في سقوط الاقتصادات التي تعتمد على الصادرات من ألمانيا حتى اليابان. وانهارت تدفقات رؤوس الأموال الخاصة، ما دمر الاقتصادات الناشئة التي تعتمد على الاقتراض الخارجي، خاصة تلك في أوروبا الشرقية.
ويكافح المتنبئون الاقتصاديون لمواكبة الأحداث بسبب نطاق الانكماش وحدوثه بصورة مفاجئة. وفي أحدث وأحلك التوقعات الرسمية، قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذا الأسبوع إنها تتوقع أن يتقلص الاقتصاد العالمي بنسبة 2.7 في المائة عام 2009. وهي تعتقد أن الدول الأعضاء الأثرياء فيها ستشهد انخفاض ناتجها بنسبة تزيد على 4 في المائة. وسيكون هذا أعمق انكماش متزامن منذ الثلاثينيات.

ذرات من الذهب وسط الرماد
وصحيح أن بعض الإحصاءات الجديدة توفر بصيصا من الأمل. فأحدث إحصاءات التصنيع، خاصة في آسيا، تشير إلى نهاية الانفجار الداخلي للإنتاج الصناعي العالمي. ولم يعد الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا ينخفض بسرعة كبيرة، كما أن سوق الإسكان، التي انفجرت منها المشكلات، تظهر بعض علامات الاستقرار. وربما يكون الإقراض العقاري في بريطانيا قد بلغ أدنى مستوى له، والمستهلكون أقل كآبة الآن، ويبدو التصنيع في حالة أقل سوءا قليلا. وقد ساعدت هذه الأخبار الجيدة بعض الشيء أسواق الأسهم المالية على الارتفاع قليلا عن المستوى المتدني الذي وصلت إليه أخيرا. ولكن لا يجب المبالغة بها. فمن الواضح أن المخاطر تكمن على الجانب السلبي، حيث يؤدي ارتفاع معدلات البطالة إلى جولة جديدة من ضعف الإنفاق ويوجد تخلف الشركات عن السداد مشكلات جديدة في أسواق الائتمان.
والأسوأ من ذلك هو أن الانتعاش، حين يحدث، سيكون ضعيفا، حيث ستعمل الدول المثقلة بالديون على إعادة بناء ميزانياتها، وتعيد الدول المعتمدة على الصادرات توجيه اقتصاداتها نحو الإنفاق المحلي. وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يظل النمو أدنى من معدل اتجاهه عام 2010، ما سيزيد فجوة الناتج في العالم الغني- الفجوة بين الأداء الفعلي والمحتمل للاقتصاد- إلى نسبة 8.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وسيسهم هذا في زيادة معدلات البطالة إلى مستويات عالية في معظم دول العالم الغني ويجعل الكثير من الدول قريبة بصورة خطرة من الانكماش.
وفي مواجهة هذه الكارثة، يقاوم صنّاع السياسة باستخدام أكبر حوافز الاقتصاد الكلي وأكثر تزامنا منذ الحرب العالمية الثانية. فقد تم تخفيض أسعار الفائدة قصيرة الأجل، حيث دخلت الكثير من البنوك المركزية الكبيرة إلى مجال غير مألوف هو "التسهيلات الكمية". وقد وضعت جميع الدول الغنية تقريبا، والعديد من الدول الناشئة، رزم حوافز مالية معا. وإذا أضفنا التأثير التلقائي لانخفاض الإيرادات الضريبية وارتفاع مدفوعات العاطلين عن العمل، ستقفز حالات العجز في الميزانية في العالم الغني بنسبة تقارب ست نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وقد تم تعزيز قوة المؤسسات المالية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي، لمساعدة الاقتصادات الناشئة التي لا تملك مجالا لمساعدة نفسها. وتعهدت الحكومات بمقاومة الانزلاق إلى الحمائية. وقد حدث بعض التراجع، ولكن ليس هناك ما يدل على تكرار جنون سياسة إفقار الجار التي سادت في الثلاثينيات.

لا يزال الانكماش هو مصدر القلق الأكبر
ويبرز هناك سؤالان. هل هذه الاستجابات، على الرغم من كونها غير عادية، كافية؟ وإذا تشكك صنّاع السياسة الحكماء، فهل يتجهون نحو فعل الكثير جدا أم القليل جدا؟
وعلى الصعيد العالمي، من المؤكد أن الجواب هو أن الجرأة أفضل من التردد. وبالطبع، هناك مخاطر متمثلة في ارتفاع الدين الحكومي وتضخم ميزانيات البنوك المركزية، إلا أن تقليص الحوافز النقدية والمالية سيكون أسهل من إخراج الاقتصاد العالمي من الحفرة الانكماشية، الأمر الذي لا تزال احتمالية حدوثه مرتفعة بصورة مزعجة إذا كانت توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية صحيحة. والدرس المستفاد من جميع الأزمات المصرفية في التاريخ الحديث هو أن الإجراءات الحكومية السريعة والحاسمة الرامية إلى تنظيم الميزانيات تؤدي إلى انتعاش أسرع وضرر أقل على مالية الدولة على المدى الطويل. وهذا أكثر أهمية هذه المرة، لأن الطريقة المعتادة للخروج من الأزمات المصرفية- الانتعاش بسبب النمو العالمي القوي- تبدو بعيدة المنال.

ولكن بالنسبة للدول الفردية، غالبا ما تختلف الحسابات، خاصة في السياسة المالية. فمن الهوامش المتسعة للسندات السيادية للعديد من الدول حتى فشل بريطانيا في بيع جميع السندات الحكومية التي تريدها في مزاد علني أخيرا، هناك دلائل تشير إلى أن الحوافز لها حدودها بالنسبة للبعض. فلم يعد أمام غوردن براون أي مجال إضافي؛ واضطرت أيرلندا إلى تشديد سياستها المالية. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لدعم صندوق النقد الدولي، يبدو بعض المقترضين من الأسواق الناشئة أسوأ حالا. والوضع الحالي كئيب، إلا أن أزمات العملات والمخاطر السيادية بسبب عدم القدرة على السداد ستزيد الفوضى سوءا.
لذلك، فإن المطلوب هو جرأة محسوبة ومدروسة. فرزمة الحوافز الأمريكية مناسبة لوضعها المالي وتوقعاتها الاقتصادية. ويجب على الدول التي أمامها مجال لزيادة الحوافز- خاصة ألمانيا- أن تفعل ذلك. ويجب أيضا على المتقاعسين في مجالات أخرى زيادة نشاطهم: لا تزال خطة أمريكا لترتيب بنوكها غير كافية مثلا. ومن المهم أيضا ألا تنفق الحكومات فقط اليوم، بل أن تضع أيضا خططا واضحة ذات مصداقية لتخفيض الإنفاق غدا. ولعل الأهم من ذلك هو أن الجرأة المحسوبة تعني ضمنا أنه ليس هناك حل واحد يناسب الجميع، بل إن على الدول المختلفة أن تجرب أمورا مختلفة، من أجل الصالح العام بالإضافة إلى مصلحتها. وهذه حالة ذهنية، يجب أن يظل قادة مجموعة العشرين يشعرون بها لفترة طويلة بعد اجتماعهم الأخير.

الأكثر قراءة