نَفَق .. وتخطيط حكومي!
إهداء: إلى أستاذي الكبير نجيب الزامل في منصبه الجديد في مجلس الشورى.
إن أكبر كارثة تحيط بالعالم الآن هي سيطرة الحكومات على المؤسسات المالية وغيرها بحجة "إنقاذ" اقتصاداتها من الكساد، إضافة إلى ما تتخذه من قوانين تحكم قبضة الحكومة على المجتمع. لقد عاد عهد "التخطيط الحكومي" وكأننا في أوروبا الشرقية منذ 40 عاما أو أكثر. لقد بدأت أزمة العقارات والرهن العقاري في الولايات المتحدة بسبب التدخل الحكومي، وحصلت أكبر أزمة مالية في التاريخ بسبب التدخل الحكومي، وللمرء أن يتخيل ماذا ستكون نتيجة هذا التدخل الحكومي في الفترات الأخيرة. إن هذا التدخل سيطيل فترة الكساد، وسيخفض مستويات النمو الاقتصادي بشكل كبير خلال السنوات المقبلة. ولعل أفضل ما سيؤدي إليه هذا التدخل الحكومي هو تصغير الفرق بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة, لأنه سيدفع الدول المتقدمة إلى الوراء. أليس من الغريب أن تفترض الحكومة الأمريكية وجود أزمة ضخمة، وتجبر البنوك على أخذ أموال الإنقاذ، لنكتشف أخيرا أن هذه البنوك لم ترغب أصلا في أخذ هذه الأموال، وأنها ستعيدها للحكومة، وأنها حققت أرباحاً؟
لقد تبين من القصص التي وردت في المقالات الماضية مخاطر التدخل الحكومي والتسعير الحكومي، ونحن مقبلون على فترة مماثلة، وقصص متشابهة. لا شك أن أسباب وجود "عالم ثالث" عديدة، ولكن من أهم أسباب وجود هذا العالم واستمراره التدخل الحكومي في شتى مجالات الحياة، بما في ذلك التسعير والإعانات، خاصة إذا كان هذا التدخل يجبر المجتمع على تبني أفكار من مجتمعات أخرى لحل مشكلات المجتمع المحلية. المشكلة لا تتمثل في الاستعانة بالدول الأخرى، ولكن في افتراض المخططين وجود مشكلة أولاً، وافتراض معرفتهم الحل ثانيا، وافتراض أن "الأجانب" هم أكثر الناس كفاءة لحل المشكلة ثالثاً! بعبارة أخرى، ليست هناك مشكلة أصلاً، ولكن في ظل التدخل الحكومي في نواحي الحياة المختلفة، تصبح "اللا مشكلة" مشكلات، والقصص في المقالات الماضية تدل على ذلك. ومن الأمثلة على ذلك القصة التالية التي دارت أحداثها منذ أكثر من ربع قرن في إحدى دول أوروبا الشرقية التي كان التدخل الحكومي إحدى سماتها الرئيسة، رغم السماح بالملكية الخاصة فيها.
يفصل بين العاصمة والوادي الذي تأتي منه اللحوم والألبان والخضار والفواكه سلسلة جبلية شاهقة، الأمر الذي يجبر المزارعين، بمن في ذلك المزارعون العاملون في المزارع الحكومية، على السفر صباحا بسيارات "بيك أب" وشاحنات على طريق يدور حول الجبل للوصول إلى العاصمة. عادة ما تستغرق الرحلة نحو ساعتين في كل اتجاه, حيث يغادرون الوادي في الصباح محملين بمنتجاتهم الزراعية وغيرها التي يوصولونها إلى مراكز التوزيع الحكومية أو يبيعونها في السوق المحلية، ثم يعودون إلى بيوتهم في الوادي بعد الظهر.
قرر المخططون أن عملية جلب هذه المواد إلى العاصمة مكلفة ماديا، كما أنها تستنزف النفط المستورد، وبدأوا يبحثون عن حل. أجمع المخططون على أن الحل الأمثل هو حفر نفق في الجبل، الأمر الذي سيخفض زمن الرحلة من ساعتين إلى أقل من نصف ساعة. المشكلة أن الحكومة فقيرة ولا يمكنها القيام بمشروع مكلف كهذا. تسربت الأخبار إلى أوروبا الغربية، وتسابق دبلوماسيوها في تلك العاصمة في إبداء الآراء والاقتراحات. في النهاية تم إرساء عقد النفق على شركة ألمانية على أن تتحمل الشركة التكاليف كافة، ثم تقوم باستعادة استثمارها مع ربح معين عن طريق وضع حاجزين في بداية النفق من الجهتين لجمع رسوم من كل سيارة تعبر النفق، على أن تؤول ملكية النفق للحكومة المحلية متى جمعت الشركة هذه الأموال. وكانت الشركة قد قدّرت أنها تستطيع استعادة استثمارها مع الربح خلال 25 سنة. وذكرت الدراسات التي أعدها الخبراء الألمان تفاصيل الوفورات الضخمة التي ستحققها هذه الدولة بسبب تخفيض وقت السفر من ساعتين إلى أقل من نصف ساعة، كما ذكرت بالتفصيل الوفورات المتعلقة باستهلاك الوقود، وأثر ذلك في تخفيض فاتورة واردات النفط.
انتهت الشركة من بناء النفق والطريق وفقا لأفضل المواصفات العالمية، وبنت حواجز في فتحتي النفق لجمع رسوم العبور، وتم افتتاح النفق رسميا بحضور مسؤولين من الدولتين، الذين اعتبروا النفق بداية لعصر جديد من العلاقات الودية بين "شرق" أوروبا و"غربها". لم يدم شهر العسل طويلا لأن عدد المزارعين الذين قرروا اجتياز النفق ودفع رسوم العبور كان منخفضاً بكل المقاييس، وأصبح المشروع مهدداً بالإفلاس.
ظن الخبراء الألمان أن السبب هو ارتفاع تسعيرة العبور، فقاموا بتخفيضها لإغراء المزارعين باستخدام النفق بدلا من الطريق الذي يدور حول الجبل، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل. ثم قاموا بالتخفيض مرة أخرى، ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة. عندها لجأوا إلى الحكومة، إلى المخططين أنفسهم الذي جاءوا بفكرة النفق، وعرضوا عليهم المشكلة. جاء المخططون بفكرة جديدة وهي "توعية" المزارعين وتذكيرهم بوجود النفق. مرت شهور ولم يرتفع عدد السيارات المارة بشكل ملحوظ. عندها قررت الشركة الألمانية إجراء مسح ميداني للتعرف على سبب عدم استخدام المزارعين النفق رغم أنه يوفر الوقت ويخفض تكاليف الوقود، ورغم تخفيض تسعيرة المرور وحملة التوعية الحكومية. جاءت نتائج المسح الميداني كالصاعقة على رؤوس مديري الشركة: من قال لكم إن المزارعين يرغبون في توفير الوقت؟
لنعد إلى الوراء قليلا ولنتذكر أن النفق بني من أجل المزارعين، ولكن لم يستشرهم أحد، ولم يتعرف على أحوالهم أحد. كل ما حدث أن مسؤولين في إحدى الإدارات قرروا، وهم في مكاتبهم، أن النفق فكرة ممتازة. ثم جاء الخبراء "الأجانب" الذين "يقدّسون" الوقت وبنوا دراساتهم بناء على ذلك "التقديس"، وبُنيت المنافع و الأرباح على تلك الفكرة.
تبين من المسح الميداني أن الأمر لا علاقة له بتسعيرة العبور، وأن المزارعين كانوا معارضين لبناء النفق، ولكن لم يستشرهم أحد. تعلمت الشركة أن وقت المزارع في ذلك البلد لا قيمة له إذا لم يكن يزرع أو يبيع إنتاجه، ونظرا لصغر حجم الأرض التي منحتها له الحكومة فإن لديه وقتاً كثيراً لتبديده. كانت الرحلة اليومية في "البيك أب" مع المزارعين الآخرين أفضل طريقة لقتل الوقت: أربع ساعات في اليوم! أربع ساعات من الحديث والسمر وتبادل الخبرات. لقد كان وقت السفر متعتهم اليومية. من الذي سيدفع تكاليف عبور النفق ليضحي بكل هذه الفوائد؟ كما تبين أيضاً أن هذه السفرة الطويلة هي أفضل وسيلة لهروب موظفي الحكومة من العمل الشاق في المزرعة.
عندها أدركت الشركة الخطأ الكبير الذي وقعت فيه: للوقت قيمة كبيرة في الغرب، ولا قيمة له عند البعض في الشرق، ومن الغباء أن يقوم المزارع بدفع رسوم لتوفير وقت لا قيمة له. لقد أخطأ خبراؤها عندما اعتقدوا أن قيمة الوقت واحدة في الغرب والشرق. أدركت الشركة أنها خسرت ملايين الماركات ( جمع "مارك"، العملة التي كانت تستخدمها ألمانيا قبل اليورو) بسبب هذا الخطأ، وعندما بدأ مسؤولو الشركة بلوم بعضهم، احتج أحد المديرين قائلا: لماذا تلوموننا ونحن غرباء عن ذلك البلد وثقافته؟ لماذا تلوموننا وكل ما حاولنا القيام به هو مساعدة ذلك البلد في وقت نجني فيه بعض الأرباح؟ ألم نبن دراساتنا على التقارير التي أصدرها المخططون في تلك الدولة؟ لماذا تلومون الغريب، ولا تلومون ابن البلد الذي جاء بالفكرة؟ لا تلومونا، بل لوموا التدخل الحكومي الذي سبب هذه المصيبة. لقد قمنا بحساب الوفورات الناتجة عن استخدام الوقود، ولكننا اكتشفنا أن أغلب السيارات حكومية، وتحصل على البنزين والديزل مجانا، كما أصرت الحكومة على استمرار دعمها لأسعار البنزين والديزل، الأمر الذي جعله رخيصاً، ولم يؤثر في قرار المزارعين بالسفر عبر النفق. طلبنا من الحكومة رفع الأسعار وتخفيض الإعانات، ولكنهم رفضوا. تصوروا أنهم يهدرون الطاقة والوقت معاً، من منا يصدق ذلك؟
في خطاب رسمي، وأمام جمع غفير، أعلنت الحكومة الألمانية "وهب" النفق لحكومة الدولة الأخرى تعبيرا عن "الصداقة" بين البلدين. سيطرت الحكومة المحلية على النفق وبدأت تجمع رسوم المرور لحسابها، ولكنها لم تهتم بصيانة النفق. بعد فترة تم إغلاق النفق بسبب التصدعات الناتجة عن الإهمال.
ترى، هل سيحصل ما حصل لو تمت استشارة المزارعين في الموضوع؟ وهل سيحصل ما حصل لولا الدعم الحكومي لأسعار الوقود؟ ربما، في مجتمع لا "يقدّس" الوقت.