قراءة في التشكيلات الجديدة

لا شك أن التشكيلات الجديدة التي صدرت الأسبوع الماضي لم تخلُ من المفاجأة، وعنصر المفاجأة فيها كان في مضمونها ومحتواها، وليس في توقيتها، فقد كان معلوما أن هذا هو التوقيت السنوي للتجديد أو التمديد في كثير من المناصب القيادية العليا في الدولة، إلا أن الملاحظة البارزة والمهمة التي تركت صدى واسعا، هي في أنها لم تكن تقليدية وروتينية، أي أنها لم تحصر فقط بتغيير الأسماء بقدر ما حملت تطويرا بارزا في هيكلة وتركيبة عدد من المؤسسات الأكثر تأثيرا وفاعلية في البلد، وهنا يكمن عنصر التغيير الإيجابي والملاحظ، الذي يمكن أن يُلمس في هذه التشكيلات الجديدة.
القراءة الأولية لمضمون هذه التشكيلات الجديدة، تعطي مؤشرا بالغ الدلالة على أنها تغيير وتجديد مبني على رؤية محددة، ولم يكن تغييرا لمجرد التغيير، وهذه الرؤية مرتبطة ارتباطا وثيقا بفكرة الإصلاح الشامل، التي سبق أن أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بدءا من فعاليات الحوار الوطني الذي أسس بدوره لمرحلة الإصلاح من خلال هدف أساسي، وهو حلحلت كثير من حالات الجمود، وخاصة الفكري الذي كان سائدا. ويمكن تلمس إرهاصات فكرة الإصلاح من عبارات عديدة احتوتها كلمات وأحاديث وخطب الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي حملت مؤشرات واضحة الدلالات، وترجمت عمليا في صدور مشاريع تطويرية للقضاء والتعليم، وإنشاء جامعة بمواصفات علمية عالمية كجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ويأتي نوع هذا التشكيل الجديد مترجما لها.
ما يعكس هذه الأجواء التفاؤلية والإيجابية التي صاحبت صدور هذه التشكيلات، هو في أنها حملت خطوات تغيير وتطوير جذرية، بمعنى أن التغيير كان في النوع والكيف، وليس فقط في الكم والشكل، وهذا واضح غاية الوضوح في أنه مسَّ أهم المؤسسات ذات الصلة المباشرة بفكرة الإصلاح والرؤية المنبثقة منها، وتكون القاعدة الأساسية التي يقوم عليها أي تغيير مبنية على غاية إصلاحية، التي لا بد أن ترتكز على أدوات تشريعية وتنفيذية متواكبة معها فكرا ورؤية وقناعة، لتكون بذلك قادرة على دعم فكرة الإصلاح عمليا وبكفاءة عالية، ورغم محدودية هذا التغيير، إلا أن فاعليته كبيرة ومؤثرة، ومؤشر لتغيير شامل قادم لا بد له أن يستكمل منظومة مؤسسات تقود الإصلاح المطلوب، ويؤسس لمنهج يطبق الرؤية المتكاملة له.
كل هذه المعاني وأكثر يمكن قراءتها في تركز التشكيل الجديد على مؤسسات مفصلية وأساسية، وهي المؤسسة القضائية والعدلية والفقهية، والمؤسسة التعليمية، والمؤسسة الصحية، إلى جانب وزارة الثقافة والإعلام، فالتغيير الذي شمل مؤسسة القضاء والعدل وما ينضوي تحتها كان عميقا وعمليا، وجاء مبنيا على مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء، الذي رصد له سبعة مليارات ريال، وأهمية تطوير هذه المؤسسة المهمة والفاعلة، أن التشكيل تضمن حزمة تشريعية شملت نظامين رئيسيين هما: نظام القضاء، ونظام ديوان المظالم، وانبثق عنه تشريع جديد تمثل في المحكمة الإدارية العليا التي تقابل محكمة النقض، وما صاحب ذلك من تجديد وتطوير في هيكلة هذه المؤسسة مثل هيئة كبار العلماء التي توسعت لتشمل جميع المذاهب السنية.
في المؤسسة التعليمية، أي وزارة التربية والتعليم، حدثت ثاني علامات التغيير، وأهمية هذه الوزارة أنها تعنى بصناعة العقول وصقلها وتهيئتها لتأخذ دورها لتكون المحرك الفاعل في عملية نهضة وتطوير وتحديث متواصل ومستمر، والمشكلة التي كثيرا ما عانى منها التعليم، هو أنه لم يستقر على استراتيجية واضحة ذات أهداف محددة وواضحة المعالم، بل ظلت على مدى العقود الماضية مجرد حقل تجارب تضخمت بالقرارات وانعدمت من الفاعلية، والتشكيل الجديد حمل لهذه الوزارة العتيدة ما يمكن وصفه بفريق عمل جاء من أفق واسع، فالأمير الوزير يملك إلى جانب التأهيل العلمي الخبرة العملية، والقدرة على مواجهة فكر الجمود الذي تحكم في مفاصل التعليم، ويدعمه ثلاثة نواب كل منهم غير مثقل بالعمل التعليمي الروتيني والتقليدي، وبينهم سيدة تمثل أول امرأة سعودية تتولى منصبا كبيرا بعد منصب الوزير مباشرة، ورسالتي إلى هذا الفريق المتميز هي: أننا نريد تربية وتعلما لا مجرد تعليم.
أما وزارة الصحة فقد اختير لها شخصية طبية بارزة جاءت من عمق المؤسسة الصحية العملية، وليس فقط الإدارية، وفي هذا دفق مهم لتحريك الجانب العلاجي المنوط بها، ومن المؤكد أن اختيار الدكتور عبد الله الربيعة صاحب الإنجازات الطبية المبهرة، اختيار محسوب لنقل هذه الوزارة إلى الواقع العملي ممثلا في تفعيل دورها العلاجي على مستوى المملكة والشرائح كافة، وهناك رسالة للوزير الجديد تكمن في أننا ننتظر جعل التوجه إلى المستشفيات الحكومية خيار المواطن الأول.
لعل هذه أبرز ملامح التغيير المهم في هذا التشكيل الجديد وليس الوحيد، فوزارة الثقافة والإعلام جيء لها بوزير يملك الحس الإعلامي والخبرة الدبلوماسية، والإعلام هو واحد من أهم ركائز منظومة الإصلاح والتطوير.
مجمل ما يمكن قوله حيال هذا التشكيل: إنه يؤسس لمرحلة جديدة ستشهد عديدا من الانفراجات، وتضبط الحراك وتوجهه إلى خدمة أهداف كبرى، وعلينا جميعا أن نتفاعل معه بإيجابية ومسؤولية وطنية ملتزمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي