نزاع بحر جنوب الصين.. لعبة مساومات غير متوازنة

النزاع الإقليمي حول بحر جنوب الصين، والذي يشار إليه أيضا بنزاع جزر سبراتلي، كان في أواخر الثمانينيات وخلال التسعينيات من القرن الماضي يوصف في أغلب الأحيان أنه نقطة وميض أمنية إقليمية كبيرة، ومع أن القضايا الجوهرية تظل بلا حل، فإن التكامل الاقتصادي والعولمة، أديا منذ بداية هذا العقد إلى حرف مسار العلاقات، مؤقتاً، بين المدعين ببحر جنوب الصين، بعيداً عن المواجهة المباشرة.
وبينما يبدو أن الصراع في مرحلة تخفيض التصعيد، فإن كل المدعين بالحق في هذا البحر فقد خرجوا واعتمدوا على وسائل غير عسكرية لتأكيد ادعاءاتهم وتعزيز موقفهم. ويقوم البعض بترتيب جولات ميدانية للسياح في المناطق والجزر المرجانية المتنازع عليها، ويرسل آخرون بالعلماء للقيام بأبحاث في الحياة البرية لكن قوى أخرى تملك رأسمال أكثر قسرية، تقيم مباني دائمة على المناطق الحيدية والصخور المتنازع عليها.
ومن منظور نظرية اللعبة، فإن النزاع في بحر جنوب الصين يتخذ أبرز شكل، فهو لعبة مساومة، فكل بلد هو لاعب يمتلك استراتيجيات معينة وعليه أن يقرر أي استراتيجية يستخدمها أمام مجموعة من الاستراتيجيات التي يحتمل من الآخرين أن يلعبوها.
كأي لعبة مساومة أخرى، فإن البلد الذي يملك أكبر قوة مساومة سيجعل اللعبة تعطي أكبر مكافأة، والذين لا يملكون أي قوة مساومة سيخرجون من اللعبة خالي الوفاض، وحتى يحدث ذلك، فإن أقوى لاعب سيخوض المعركة بشراسة ويستخدم قدرته المتفوقة، لتخويف الأعداء الأضعف لتقديم تنازلات مختلفة.
وهذا هو ما يحدث بالضبط في النزاع حول بحر جنوب الصين، فالصين وهي أقوى لاعب في هذا النزاع، تمارس سياسة عدوانية نسبياً نحو المدعين الآخرين.
ومنذ عام 1947، أصدرت الصين خريطة مشهورة حالياً تظهر تسعة خطوط منقطة غير محددة، وتدعي الحق في السيادة على كل الأرض (التي تشكل أكثر من 70 في المائة من منطقة بحر جنوب الصين)، وفي عام 1992 نشر مؤتمر الشعب الوطني هذه الخطوط الأساسية، والتي تفند التفسيرات الدولية القانونية التقليدية، حسما قال المعهد الدولي للسلام. ولتأكيد مطالبها فإن الصين لجأت إلى مواجهة عسكرية (ضد فيتنام عام 1974 وعام 1988، وضد الفلبين عام 1996 وعام 1997).
وحتى خلال فترة تخفيف التصعيد، كانت الصين فعالة جداً في تأكيد مطالبها من خلال وسائل غير عسكرية، وكانت الصين، وبشكل محدد، تستخدم القوة المميتة بين الحين والآخر ضد صيادي السمك المدنيين من البلدان المجاورة حين كانوا يبحرون في المياه المتنازع عليها. كما أن الصين كانت تضغط على الشركات العالمية، مثل بريتيش بتروليوم وأكسون موبل، لتتراجع عن مشاريع الاستكشاف المشتركة مع فيتنام، وعلاوة على ذلك، فقد دأبت الصين على إنشاء مبان دائمة عديدة على الجزر المرجانية والصخور المتنازع عليها لأغراض "علمية" و"إنسانية".
إن القيام بكل هذه التدابير استراتيجية متطورة تلعبها الصين لتفسيخ المدعين من جنوب شرق آسيا من خلال وسائل اقتصادية ودبلوماسية، إضافة إلى حملة دعائية على نطاق عالمي لترويج موقف الصين الذي لا لبس فيه.
ونجاحات الصين الأخيرة في بحر جنوب الصين نجاحات ملموسة، ففي أواخر عام 2007، أعلنت الصين عن إقامة "مدينة" جديدة في المنطقة المتنازع عليها، وهذا رغم الحقيقة الماثلة في أن المنطقة المشار إليها بالكاد تضم عدداً من السكان الذي يمكن ذكره، وهي تتكون في معظمها من مياه وجزر مهجورة.
وفي واقعة أخرى، يوم 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 أعلنت الصين أنها ستستثمر أكثر من 29 مليار دولار في مشاريع استكشاف النفط في كل أنحاء المياه المتنازع عليها، وقوبل كل من الإعلانين بمعارضة ضئيلة بشكل مثير للدهشة من المدعين الآخرين، وقد أهمل الإعلام العالمي الإعلان الأول، إلى درجة كبيرة، واحتل الإعلان الثاني أخباراً رئيسة في كل أنحاء المعمورة، عدا أن معظم التقارير نسيت أن تذكر النزاع الإقليمي في بحر جنوب الصين.
وكما هو الحال في لعبة مساومات مثالية، فإن تموضع الصين الدبلوماسي القسري وغير المعلن، ونجاحها أمر مفهوم، فما هو أصعب على القدرة على استيعابه، عدم القيام بالعمل من قبل منافسي الصين وعجزهم الملموس، فإذا قامت فيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي بمواجهة الصين، كلا على انفراد، فإن فشلها مؤكد لأنها تفتقر جداً إلى القدرة، على صعيد اقتصادي وعسكري على حد سواء.
وإذا استطاعت هذه البلدان أن تشكل تحالفاً وتواجه الصين كمجموعة واحدة، فقد يكون التحالف قوياً بما يكفي للصمود أمام المخططات الصينية، وعلى العموم فإن التاريخ يثبت أن الصين ستذعن حين تواجه خصماً يمتلك حاشية قوية بالمقدار نفسه، ففي نزاع إقليمي أخير حول بحر شرق الصين، أبرمت الصين واليابان، أخيراً، اتفاقية يوم 18 حزيران (يونيو) 2008، اتفقتا على عملية مشتركة من الاستكشاف والاستغلال، ووفقاً لهذه الاتفاقية فإن كل المشاريع المشتركة تقع على الحدود بين البلدين كما أكدت اليابان في الأصل، وليست الصين، وبكلمات أخرى، فإن خط الحدود الذي رسمته الصين في السابق كان دون قيمة، وتم تدعيم تأكيدات اليابان الإقليمية فيما يتعلق ببحر شرق الصين.
ومع هذا فإن تشكيل تحالف حول نزاع جنوب الصين لن يكون سهلاً على فيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي، فحتى تنجح آليات التحالف، فإن على هذه البلدان أولاً أن تتعلم كيف تثق الواحدة بالأخرى، ففي عامي 2003 و2004، مثلاً، قامت الصين بإقناع الفلبين بسهولة بأن توقع على اتفاقية ثنائية طرحت هواجس فيتنام جانباً، وعدم الثقة سيجعل كل البلدان الأربعة في وضع ضعيف أمام المناورات الصينية.
وعلى هذه البلدان من مجموعة آسيان، أن تنحي المطالب المتضاربة في الحق في الجزر والمناطق الحيدية والصخور في جزر سبارتلي- وتتعاون في العمل وفق تقسيم عادل للمنطقة المتنازع عليها ويجب أن يكون هذا التحالف المتصور أكثر تفاعلاً في نشر المعلومات حول موقفها وشرعية مطالبها على الساحة الدولية وذلك لأنه دون تأييد عالمي النطاق، فإنه حتى تحالف دائم بين بعض أعضاء مجموعة آسيان قد لا يكون قوياً بشكل كاف يجعله يواجه الصين حول نزاع بحر جنوب الصين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي