وأخيرا انفجرت فقاعة الإسكان في وجه العالم

وأخيرا انفجرت فقاعة الإسكان في وجه العالم

ظللت لمدة طويلة أتكهن بأنها مسألة وقت لا أكثر قبل أن تنفجر فقاعة الإسكان في أمريكا ـ وهي الفقاعة التي بدأت في الأيام الأولى من هذا العقد، مدعومة بطوفان من السيولة والتنظيمات المتراخية. وكلما طال زمن تمدد الفقاعة كان حجم الانفجار المتوقع أضخم (وأكثر انتشاراً على مستوى العالم) وكانت الدورة الاقتصادية الهابطة نتيجة لذلك الانفجار أعظم.
إن خبراء الاقتصاد بارعون في التعرف على القوى الأساسية، ولكنهم يفتقرون إلى البراعة في تقدير الزمن والتوقيت. ولكن الديناميكيات كانت مطابقة للتوقعات إلى حد كبير. فأمريكا ما زالت تتخذ اتجاهاً هابطاً في مسارها نحو عام 2009 ـ وما سيصحب ذلك من عواقب وخيمة يتحملها العالم ككل.
على سبيل المثال، مع الانخفاض الحاد في الإيرادات الضريبية، ستضطر الدولة والحكومات المحلية إلى تقليص نفقاتها. ولقد أصبحت الصادرات الأمريكية على وشك الانحدار، كما تراجع الإنفاق الاستهلاكي طبقاً لما كان متوقعاً، وحدث تناقص هائل في الثروات يقدر بالمليارات، مع انحدار أسعار المساكن والأسهم. فضلاً عن ذلك فإن أغلب الأمركيين كانوا يعيشون بما يتجاوز مستويات دخولهم، وذلك باستخدام مساكنهم ذات القيم المتضخمة كضمان. ولكن هذه اللعبة قد انتهت الآن.
كان من المحتم أن تواجه أمريكا هذه المشكلات حتى ولو لم تكن في مواجهة أزمة مالية في الوقت نفسه. إذ إن الاقتصاد الأمريكي كان مشحوناً بالروافع المالية (شراء الأوراق المالية بأموال مقترضة)، والآن تأتي العملية المؤلمة المتمثلة في عكس ذلك الوضع. إن الإفراط في الاستعانة بالروافع المالية، مصحوباً بالقروض السيئة والمشتقات عالية المجازفة، كان سبباً في تجمد أسواق الائتمان. فمن الطبيعي حين لا تعرف البنوك لدفاتر موازناتها العمومية رأساً من ذيل ألا تثق في دفاتر موازنات غيرها من المؤسسات.
من الواضح أن إدارة بوش لم تنتبه إلى المشكلات المقبلة عليها، حتى أنها أنكرت وجود المشكلات حين أتت بالفعل، ثم حاولت التهوين من شأنها، وأخيراً أصابها الذعر. وتحت توجيهات أحد مهندسي المشكلة، هانك بولسون الذي كان يدعو إلى رفع القيود وإلغاء التنظيمات والسماح للبنوك باستقبال المزيد من الروافع، فلم يكن من قبيل المفاجأة أن تنحرف الإدارة من سياسة إلى أخرى ـ كانت كل استراتيجية تتبناها الإدارة مدعومة بيقين مطلق حتى النهاية، قبل أن تهجرها إلى استراتيجية أخرى. وحتى لو كانت الثقة على هذا القدر من الأهمية حقاً، فكان من المحتم أن يغرق الاقتصاد.
فضلاً عن ذلك فإن الإجراءات البسيطة التي اتخذت كان الهدف منها دعم النظام المالي. بيد أن الأزمة المالية لم تكن سوى واحدة من العديد من الأزمات التي تواجه البلاد: فقد تفاقمت مشكلة الاقتصاد الكلي سوءاً بسبب تضاؤل ثروات النصف الأدنى من السكان. ولم يعد الراغبون في الإنفاق يملكون المال، أما من يملكون المال فلم تعد لديهم أية رغبة في الإنفاق.
إن أمريكا ـ والعالم ـ تواجه أيضاً مشكلة بنيوية رئيسة أشبه بتلك التي برزت في أوائل القرن الماضي، حين كانت الزيادات الحاصلة في الإنتاجية الزراعية تعني التضاؤل السريع للقسم الذي يستطيع القطاع الزراعي استيعابه من السكان. واليوم سنجد أن الزيادات في الإنتاجية الصناعية ذات تأثير أعظم من التأثير الذي خلفته الزيادات في الإنتاجية الزراعية قبل قرن من الزمان؛ ولكن هذا يعني أن التعديلات الواجب تطبيقها لابد أن تكون أعظم.
منذ فترة ليست بالبعيدة دارت مناقشة حول المخاطر المترتبة على المحاولات غير المرتبة لحل الخلل الهائل في التوازن الاقتصادي العالمي. وما نشهده اليوم هو جزء من ذلك الحل غير المرتب. ولكن التوازنات العالمية للقوة الاقتصادية تشهد اليوم تغيرات جوهرية بالقدر نفسه: فالذخيرة من الأموال السائلة القادرة على إنقاذ العالم أصبحت اليوم في آسيا والشرق الأوسط، وليس في الغرب. ولكن المؤسسات العالمية لا تعكس هذه الحقائق الجديدة.
كانت العولمة تعني أن كل قسم من العالم أصبح أكثر ارتباطاً بغيره من الأقسام وأكثر اعتماداً عليه. وعلى هذا فليس من الممكن أن يمر أضخم اقتصاد على مستوى العالم بدورة اقتصادية هابطة طويلة دون أن تتأثر بقية أقسام العالم. كنت أزعم لمدة طويلة أن فكرة فك الارتباط ليست أكثر من وهم؛ والأدلة تشير إلى صحة هذا الافتراض الآن. وتتجلى لنا صحة هذا الافتراض حين ندرك أن أمريكا لم تصدِّر ركودها فحسب، بل وأيضاً فلسفتها الفاشلة في إلغاء التنظيمات، ورهنها العقاري السام، حتى أصبحت المؤسسات المالية في أوروبا وأماكن أخرى من العالم تواجه الآن المشكلات نفسها.
لا شك أن العديد من الناس في بلدان العالم النامي استفادوا إلى حد كبير من الانتعاش الأخير، سواء عبر التدفقات المالية، أو الصادرات، أو ارتفاع أسعار السلع الأساسية. والآن أصبح كل ذلك يجري في عكس اتجاهه. والواقع أن المفارقة العظمى هنا هي أن المال يتدفق الآن من البلدان ذات الاقتصاد الفقير الذي يتسم بحسن التنظيم والإدارة إلى الولايات المتحدة، التي هي مصدر المشكلات العالمية.
إن الهدف من سرد هذه التحديات التي تواجه العالم الآن هو أن أشير إلى أنه حتى في حالة قيام أوباما وغيره من زعماء العالم بكل شيء على الوجه السليم، فمن المحتم أن يمر اقتصاد الولايات المتحدة والعالم بفترة عصيبة. والمسألة الآن ليست إلى متى قد يدوم الركود فحسب، بل كيف قد يبدو اقتصاد العالم حين يخرج من الركود.
هل يعود العالم إلى النمو القوي، أم أن فترة النقاهة سوف تتسم بفقر الدم، كما حدث مع اليابان أثناء فترة التسعينيات؟ في هذه اللحظة أميل إلى ترشيح الاحتمال الأخير، خاصة أن التركة الضخمة من الديون من المرجح أن تثبط أي حماس لتوفير الحوافز الضخمة المطلوبة. وفي غياب حوافز ضخمة إلى الحد الكافي (ما يزيد على 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) فلسوف ننزلق إلى حلقة مفرغة سلبية: إذ إن الاقتصاد الضعيف يعني المزيد من حالات الإفلاس، الأمر الذي لابد أن يدفع أسعار الأسهم إلى الانخفاض وأسعار الفائدة إلى الارتفاع، فتنهار ثقة المستهلك وتضعف البنوك. ولسوف تشهد مستويات الاستهلاك والاستثمار المزيد من التراجع.
إن عديدا من خبراء المال في وول ستريت يرتدّون الآن إلى عقيدتهم المالية القديمة فيما يتصل بخفض مستويات العجز. والعجيب في الأمر أنهم ما زالوا يحظون بالاحترام الشديد في بعض الدوائر، حتى بعد أن أثبتوا افتقارهم الكامل إلى الكفاءة. ولكن الأهم من العجز الآن هو ما سنفعله بالمال؛ إن الاقتراض من أجل تمويل الاستثمارات عالية الإنتاجية في التعليم، والتكنولوجيا، والبنية الأساسية من شأنه أن يعزز من قوة الميزانية العمومية للدولة.
ولكن خبراء المال سوف ينادون بالحذر: "دعونا نرى أولاً كيف ستكون حال الاقتصاد، وإذا كان في حاجة إلى المزيد من المال، فمن الممكن أن نمنحه إياه". ولكن الشركة التي تضطر إلى الإفلاس لن تتراجع عن إفلاسها حين ينعكس اتجاه الأمور. إذ إن الضرر في هذه الحالة يكون طويل الأمد.
إذا قرر أوباما أن يتبع غريزته وأن يوجه اهتمامه نحو "مين ستريت" (منطقة تجار التجزئة) بدلاً من وول ستريت، وإذا ما تحلى بالجرأة الكافية، فمن المحتمل أن يبدأ الاقتصاد في الخروج من الدورة الهابطة والانكماش الاقتصادي بحلول نهاية عام 2009. أما إذا لم يحدث ذلك فإن التوقعات قريبة الأمد بالنسبة لأمريكا والعالم سوف تكون قاتمة وكئيبة.
أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عن عام 2001.

الأكثر قراءة