اقتصاد الخليج .. ليس ربيعا في كل الأحوال
دنيا الاقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي، ليست ربيعاً .. ولا الجو فيها بديع !
قد يبدو هذا الوصف قاسياً.. لكن ما يخفف من قسوته القول أيضا: إن هذه الدنيا ليست خريفاً تتساقط أوراقها.. وسيقانها عارية في مهب موجات الصقيع التي تضرب الأسواق العالمية يمينا ويسارا، تحت تأثير تهاوي مؤسسات اقتصادية أمريكية عملاقة، في أعقاب أزمة الائتمان العقاري هنا، وانزلاق الاقتصاد الأمريكي تحت تأثيرها إلى منحدر الركود السحيق.. آخذا في طريقة اقتصادات كبيرة .. إن لم نقل الاقتصاد العالمي كله، إلى هذا المنحدر بنسبة أو بأخرى.
نعم إن دنيا الاقتصاد في إقليمنا ليست ربيعا، وهذه حقيقة أكبر من أن تُحجب، فما حصل ويحصل في الاقتصاد العالمي كبير، وتداعياته واضحة، وبعضها قاس، والاعتراف بذلك هو الخطوة الأولى الصحيحة، في طريق المعالجة، التي إن لم تكن ناجعة تماما، فإنها في الأقل توقف اتساع .. وتُقلِص مساحة وحجم الأضرار، عن طريق تشخيص مواطنها ودراسة الوضع بكل جوانبه، وتحديد سبل العلاج، بالاستعانة بالقدرات المتوافرة، واحتياطيات المناعة والمضادات الحيوية المخزونة تحت اليد تحسبا لهكذا حال.
حتى الآن، تتركز الأضرار الناتجة عن تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على منطقتنا، في أسواق المال .. وقد أرخت ظلالها أيضا على الأسواق العقارية بيعاً وشراءً، تحت تأثير إجراءات احترازية من المؤسسات المالية والمصرفية، عبر تقييد عمليات التمويل بإجراءات ثقيلة ضمانا للسداد، أو إيقاف بعض منها العمل في هذا الميدان ولو مؤقتا .. دفعت كثيرا من الشركات الكبرى إلى مراجعة أحوالها، وذهب غير قليل منها إلى الشروع بإعادة هيكلة نفسها، وابرز تعبيرات إعادة الهيكلة تلك، كانت تسريح أكثر من شركة لأعداد من عمالها بنسب متفاوتة، بدت الخطوات الأولى المتخذة منها، غير صغيرة، فالاستغناء عن 10 في المائة فما فوق كخطوة أولى لا يمكن اعتباره إجراء صغيرا، إذا أخذنا في الاعتبار حجم العمالة التي تشغلها تلك الشركات، والذي سينعكس حتما على حجم العمالة الوافدة بمختلف اختصاصاتها التي تديم زخما معقولا من الأداء في السوق لجهة استمرار التنمية المستدامة، التي تضطلع بدور مزدوج في حركة السوق إنتاجا واستهلاكا بما يحافظ على حيويته.. مُضَافٌ إليهما التراجع السريع والكبير في أسعار النفط، التي خفّضت كثيرا من كم الداخل من ثروة مالية هي عماد اقتصادات الدول النفطية عادة.
وحين يكاد ينحصر المرئي من مشهد تداعيات الأزمة في هذين الجانبين ومعهما التراجع الكبير في أسعار النفط الخام المصدر إلى الأسواق العالمية، فلأن الأعمال في هذه الميادين تمارس تحت أضواء الإعلام التي لا تُغيب زاوية عن العين، أما غياب المعلومات عن حجم ما أصاب الميادين الأخرى، فليس مرده عدم تأثرها، بل غياب الشفافية، التي حجبت عن المتداول في الإعلام، حقيقة موقف الاستثمارات الخارجية مالية وغيرها في الأسواق العالمية، ومنها الاستثمارات في الأسواق الاقتصادية الأمريكية موطن الأزمة، والأوروبية أول المتضررين بها، والتي يقدر كثير من المراقبين أن الضرر الذي لحق بها كبير وبلغت خسائر تلك الاستثمارات فيها أعدادا غير قليلة من المليارات، على الأقل في تناقص قيمة الموجودات .
إجمالا، ورغم غياب التقديرات الحقيقية لحجم الأضرار التي لحقت باقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، بسبب عدم وجود شفافية كافية، فإن تأثيرات الأزمة وتداعياتها في مجمل اقتصادات الخليج لا تبدو حتى الآن ونحن في نهاية عام 2008 عصية على المعالجة، أو أنها خرجت عن السيطرة، فالقدرة على التحكم بها متوافرة، حيث تتمتع اقتصادات هذه الدول بمكامن قوة، تعطيها قدرة عالية على امتصاص الصدمة، وتبديد عنفها، وتقليص حجم الأضرار الناتجة عنها قياسا بدول كثيرة أخرى في جهات العالم الأربع بما فيها الدول المصنفة كاقتصادات قوية من دول صناعية وغيرها .
وفي مقدمة أسباب القوة والقدرة العالية في هذه الاقتصادات (اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي) الوفرة المالية، أو الفوائض التي راكمتها هذه الدول من تزايد أسعار النفط خلال السنوات الست الماضية، والتي بلغت حتى نهاية عام 2007، تريليون و800 مليار دولار، ويعتقد أنها تجاوزت الآن سقف تريليونين نتيجة الزيادة الكبيرة التي شاهدتها أسعار النفط الخام على مدى أشهر النصف الأول من العام الجاري، حين بقيت تتنقل من سعر إلى أعلى، لم يقل أدناها عن 100 دولار للبرميل، وبلغ أعلاها 150 دولارا/ برميل .. في حين أن جميع ميزانيات دول الخليج كانت محسوبة على أن سعر البرميل دون الخمسين دولارا للبرميل، مما راكم فوائض كبيرة مضافة إلى تلك التي أشرنا إليها.
إن هذه الوفرة في " الفوائض " يسرت على دول مجلس التعاون، اتخاذ حزمة من الإجراءات وهي في وضع مستريح، لتطويق تأثيرات تلك التداعيات، ما ظهر منها، وما هو متوقع .. ومن بين تلك الإجراءات على سبيل المثال لا الحصر : ضمان الودائع والمدخرات المصرفية في المصارف المحلية، وضخ سيولة مالية في تلك المصارف.
هذه الإجراءات أن بدت غير كافية حتى الآن لإلغاء المخاوف، حيث حجم التأثير النفسي الناجم عن الأزمة وتداعياتها كبير جدا، بل إن البعض يعطيه المرتبة الأولى بين تأثيرات تلك التداعيات، وينسب إليه مظاهر الارتباك التي سرت في الأسواق، بين الناس في المنطقة وفي المقدمة طبعا المستثمرون منهم. لكنها أشّرت بوضوح قدرة نوعية عالية تتوافر عليها هذه الدول للخروج من الأزمة بأقل الأضرار.
رب ضارة نافعة
ثَمة جوانب لتأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية، وما تبعها من تراجع أسعار النفط، لا يمكن وصفها بالسلبية.. بل إنها تبدوا إيجابية، خاصة هنا في دول مجلس التعاون الخليجي.
المعرُوف أن هذه الدول تعاني في السنوات الأخيرة تصاعد التضخم، وبدت كل المحاولات المبذولة للجمه غير ذات تأثير، حيث تزايد ضغطه على المجتمع ثقيلا وفي تصاعد.. المفارقة جاءت من أن علاج هذه المعضلة أتت من رحم هذه الأزمة، التي هوت من بين ما هوت به أسعار كثير من المواد، بما فيها الغذائية، وغيرها من مواد أولية، لتسحب معها إلى الأسفل معدلات التضخم، رافعة بالمقابل مستوى القدرة الشرائية .. مما يسر على هذه الحكومات من لجم التضخم عند مستوياته العالية التي تجاوزت 15 في المائة هذه السنة مثلا، ومن ثم تراجعه إلى نسبة أقل بفارق غير محسوس خلال هذا العام، لكنها ستكون كذلك في العام المقبل 2009، حيث يقدر البعض تراجع التضخم إلى المعدلات المعقولة تحت سقف 10 في المائة، وقد تراجع أكثر إلى التراوح في محيط 7 في المائة. يُقابل هذا التراجع في التضخم محافظة دول مجلس التعاون على نسب نمو مقدرة في محيط 7 في المائة صعودا وهبوطا.. وفي أسوأ الحالات تحقيق نسب نمو بين 4 و5 في المائة، الأمر الذي يحافظ على حيوية اقتصادات هذه البلدان.
غير هذه وتلك، فإن الأزمة وضعت المعنيين بأمر التخطيط الاقتصادي حاضرا ومستقبلا لهذه البلدان، أمام استحقاقات لم يسبق أن حظيت بما تستحق من عناية كونها من الضرورات، وفي مقدمتها، التوجه بخطوات جدية لتحقيق الوحدة النقدية بينها، دون إبطاء .. وكذلك طرحت الأزمة في تأثيراتها الجانبية في المؤسسات المالية من مصارف وغيرها، الالتفات أيضا وبجدية إلى خلق مؤسسات مالية كبرى توازي مثيلاتها العالمية، عن طريق الاندماج أو الاستحواذ وغير ذلك، لخلق كيانات مصرفية تكون لاعبا أساسيا ليس في أسواق المنطقة حسب بل في الأسواق العالمية، بدل الاكتفاء بدورها الحالي كمستثمر أو شريك صغير، أو متعامل لا دور له في رسم السياسات المالية العالمية، التي باتت الآن أمام استحقاق إعادة النظر بكل مفرداتها تحت تأثير الأزمة، تمهيدا لوضع سياسات مالية عالمية جديدة ومختلفة أكثر حيوية.
إن كثيرا من المراقبين يسجل بطئا في حركة القيادات من قبيل التداعي إلى اجتماعات على مستويات عالية، للتدارس ووضع الحلول الناجعة، على غير ما شهده العالم مثلا في العالم الغربي من تداعي الأوروبيين إلى عقد سلسلة من الاجتماعات على مستوى القمة بينهم .. وبينهم وبين أمريكا، ثم دعوتهم إلى كثير من الشركاء العالميين للاشتراك في قمم عقدوها لهذا الغرض.
قد يكون هذا التباطؤ مرده، أن دول الخليج لديها من قنوات التنسيق عالية الفعالية ما يُغنيها عن عقد الاجتماعات تلك، أو أن لديها من التحوطات، ما أشعرها أن الوضع لم يصل إلى المستوى الذي يدعو إلى التداعي إلى عقد لقاءات طارئة، خاصة أن هناك لقاءات دورية على أعلى المستويات غير متباعدة تغطي الحاجة .. ومن هذه اللقاءات القمة التي ستعقد في الكويت في الشهر الأول من العام المقبل 2009 .. وفيه متسع لبحث كل التداعيات وسبل معالجتها، بعد أن أشبعت بحثا وتحليلا عبر قنوات التنسيق البينية الناشطة على الدوام.