لا عاصم هذا العام من تداعيات الأزمة

لا عاصم هذا العام من تداعيات الأزمة

تتفاوت تقديرات مراكز الأبحاث والخبراء حول تأثيرات الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها في الأوضاع الاقتصادية في مختلف بلدان العالم في العام الجديد 2009، إلا أن هناك حقائق لا يمكن تجاهلها، حيث يمكن من خلال هذه الحقائق الخروج باستنتاجات حول حجم الانعكاسات التي ستتركها هذه الأزمة على الاقتصاد العالمي ككل.
أولى هذه الحقائق، هي أن الأزمة ستمتد لتشمل جميع بلدان العالم دون استثناء، ولن تتمكن أية دولة من الإفلات من عواقبها، بما في ذلك البلدان التي ترى نفسها بمنأى عن الأزمة بسبب انطوائيتها وعدم اندماجها في الاقتصاد العالمي وفرضها قيود على التجارة وحركة رؤوس الأموال، تلك القيود التي فوتت عليها عديدا من الفرص الاستثمارية المهمة.
وثانيا هو أن الأزمة ومع انتهاء عام 2008، لم تصل ذروتها بعد، فالضوء الذي في نهاية النفق لم يضئ حتى الآن، والسبب هو أن الأزمة لم تصل القاع حتى هذه اللحظة. وعليه فإن التوقعات تشير إلى امتداد الركود ليشمل قطاعات أخرى، وبالأخص في البلدان الصناعية المتطورة، مما سينجم عنه طرد مزيد من العاملين في هذه القطاعات.
وثالثا، فإن العوامل السلبية التي أدت إلى نشوء الأزمة وامتدادها ما زالت موجودة، وستبقى في عام 2009، بما فيها الصعوبات التي يواجهها أكبر اقتصاد في العالم، وهو الاقتصاد الأمريكي الذي يشكل 25 في المائة من الاقتصاد العالمي، فالعجز في الموازنة وفي الميزان التجاري وتكاليف الحروب في تزايد مستمر.
أما في الاتحاد الأوروبي، فيبدو أن الأزمة قد عمقت من الخلافات بشأن الإجراءات الواجب اتخاذها للحد من تداعياتها السلبية، مما سيحد بدوره من فعالية هذه الإجراءات في العام الجديد.
وإذا ما نظرنا إلى الاقتصادات الناشئة، فمع نهاية العام بدء التباطؤ يطول الاقتصاد الصيني والهندي والبرازيلي، كما أعلنت روسيا في كانون الأول (ديسمبر) الماضي دخول اقتصادها عمليا حالة الركود، وهذه جميعها اقتصادات كبيرة وحققت خلال السنوات العشر الماضية معدلات نمو عالية أسهمت في زيادة التبادل التجاري الدولي وارتفاع الطلب على السلع والخدمات، وبالأخص على النفط ومصادر الطاقة الأخرى.
رابعا يتوقع على نطاق واسع أن يتقلص في عام 2009 كثير من الأنشطة المؤثرة في التجارة العالمية، بما فيها القطاع السياحي وقطاع المواصلات والتجارة الخارجية والنقل، مما ستكون له آثار سلبية في الاقتصاد العالمي وفي معدلات النمو في العالم.
خامسا وأخيرا، فإن أزمة الائتمان التي تعتبر المحرك الرئيسي للأنشطة الاقتصادية ستستمر في عام 2009 وربما تشمل أنشطة جديدة، كبطاقات الائتمان، مما سيعقد من تبعات الأزمة الائتمانية والتي ستؤثر بدورها في كافة القطاعات الاقتصادية.
لهذه وغيرها من الأسباب والتداعيات، فإن عام 2009 سيكون عاما صعبا للاقتصاد العالمي، فالكساد المتوقع الذي لم يشهد له العالم مثيلا منذ ثلاثينيات القرن الماضي سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل وشلل شبه تام لأسواق المال العالمية وانخفاض حاد في أسعار السلع والخدمات وإفلاس آلاف الشركات حول العالم.
رغم هذه الصورة المؤلمة، إلا أن التنسيق بين مختلف البلدان وتضافر جهودها وتطبيق خطة الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما وتنسيقه مع بلدان العالم، وبالأخص الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، ستؤدي جميعها إلى تحرك الاقتصاد العالمي ببطء للخروج من الأزمة مع نهاية عام 2009 وبداية عام 2010 وذلك بعد أن يكون الجميع قد دفع ثمن الترهلات التي أصابت النظام المالي العالمي انطلاقا من التسيب الذي أصاب النظام المالي الأمريكي والذي جر الأوضاع المالية العالمية نحو القاع.
ماذا بشأن الأوضاع في منطقة الخليج والمنطقة العربية؟ من حسن الحظ أن التأثيرات التي تعرضت لها الاقتصادات الخليجية والعربية أخف وطأة من تلك التي تعرضت لها الاقتصادات العالمية الأخرى، كما أن الفوائض النقدية التي توفرت للبلدان العربية المنتجة للنفط في السنوات الخمس الماضية ستساعد كثيرا على تجاوز ترسبات الأزمة المالية العالمية بخسائر أقل من المتوقع، وذلك إذا ما استثنينا أسواق المال العربية "البورصات" التي تأثرت بشدة من جراء الأزمة والمعرضة لمزيد من التأثير بسبب الشكوك التي تحيط بالأوضاع الاقتصادية في العالم.

وبحكم الارتباط النفسي بين الأسواق العربية والبورصات العالمية، فإنه يتوقع أن تواصل هذه الأسواق تذبذباتها، إذ لا توجد مبررات موضوعية لهذا الانخفاض غير المبرر للبورصات العربية الذي فاق انخفاض بورصة "وول ستيريت" ولندن، وهما مهد الأزمة العالمية.
هذا الارتباط النفسي سوف يستمر في العام الجديد، وربما تخف حدته إذا ما توصلت دول مجلس التعاون الخليجي إلى اتفاق في قمة مسقط حول إصدار العملة الخليجية الموحدة في موعدها، مما يعني كثيرا للاقتصادات الخليجية على وجه الخصوص والعربية بشكل عام.
إضافة إلى ذلك، فإن أسعار النفط سوف تبقى عند معدلات منخفضة، وذلك أولا بسبب انخفاض الطلب العالمي والناجم عن الركود، وبالأخص في الولايات المتحدة والصين، وثانيا بسبب تقلص المضاربات التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع الأسعار في عام 2008 ووصولها لمعدلات قياسية.
ربما يكون هذا التحدي هو الأصعب للاقتصادات العربية منه من تأثيرات الأزمة العالمية، وذلك بحكم ارتباطه بالإنفاق العام الذي يشكل العمود الفقري للأنشطة الاقتصادية في البلدان العربية، حيث لن يكون لقرارات منظمة الأوبك تأثيرات كبيرة في حركة أسعار النفط في العام الجديد.
ومع ذلك، فإن عديدا من المؤشرات في المنطقة العربية ستعتمد على طبيعة الإجراءات التي ستتخذ في هذا البلد أو ذاك أو ضمن مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي التي ما زالت تمتلك القدرة على التدخل، وذلك بفضل الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها هذه الدول.
لذلك تبقى هناك فرص جادة للتقليل من حجم الآثار السلبية التي ستنجم عن الأزمة المالية العالمية في الاقتصادات الخليجية والعربية بشكل عام، خصوصا أن تجاوز تحديات عام 2009 بنجاح سيتيح مجالات واسعة للنمو في السنوات المقبلة. وفي هذا الصدد، فإن للإجراءات المشتركة دورا فاعلا في التقليل من تداعيات الأزمة ووضع حلول مناسبة للخروج منها.
إن ذلك بالذات ما يحاول القيام به الاتحاد الأوروبي ومجموعة آسيا الشمالية التي تضم اليابان والصين وكوريا الجنوبية وتكتل "النافثا" الذي يضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، مما يتطلب القيام بتنسيق مماثل على المستويين الخليجي والعربي.

الأكثر قراءة