هل ضربة الحذاء سلوك غير حضاري؟
أجدني مهتمة بقراءة ما كتبه الآخرون الذين انتقدوا تصرف الصحافي العربي العراقي منتظر الزيدي ورميه فردتي حذائه على رأس الرئيس الأمريكي الذي تفاداهما وأحنى رأسه فزاد الحادثة كارثة ورمزية بأنها انحناءة القوة الأمريكية أمام نعل عراقي !!
قلت ربما أني أجهل ما تحتويه هذه الإبداعات التي انتشرت بينهم مدافعين عن كرامة الرئيس الأمريكي ومطالبين بعدم المساس برأسه فما بالك بضرب هذا الرأس وبحذاء!!
اتفقوا جميعا على أن أبسط آداب مهنة الصحافة وأخلاقياتها أبعد ما تكون عن هذا التصرف الغوغائي السوقي الذي يشكل إساءة للعراق وصحافته تحديدا قبل أن يشكل إساءة لبوش, قالوا إن هذا الصحافي المغمور يبدو أنه يبحث عن الشهرة بأي ثمن ومعارضته للوجود الأمريكي في بلاد الرافدين لا بد أن لا تترجم بهذا الشكل (غير اللائق وغير المتحضر)، بل كان يمكنه مثلا تعبيرا عن توجهاته المناوئة للسياسة الأمريكية طرح (أسئلة محرجة بل واستفزازية لبوش) إن كان فعلا يحترم نفسه ومهنته وواجبه الصحافيين ذلك أنه صحافي وليس مقاتلا ولا مجاهدا أو مقاوما حتى يعتبر نفسه في مهمة جهادية قتالية وسط مؤتمر صحافي ويرمي رئيس دولة خلاله بحذائه (بطريقة متخلفة) تنم عن (مدى عمق المأزق الحضاري والقيمي الذي بات يطبق علينا في هذا الجزء من العالم).
توقفت عند كلمة أن سلوكا منتظرا (غير لائق وغير متحضر) ذلك يعني أننا أمام سلوكيات (متحضرة) أحدثها الاحتلال الأمريكي بقيادة بوش ورفقاء الاحتلال الذين يدافعون الآن عن تصرفاتهم (الحضارية), وكي استوعب هذه السلوكيات الحضارية التي ربما جهلها الذين فرحوا برمي بوش بالحذاء واتهموا من قبل المحامين عن رأس بوش من الأذى بأن عقولهم تقزمت فأصبحت بحجم الحذاء!!
الحقيقة بدأت بإعادة قراءة التقارير التي تزخر بالسلوكيات الحضارية التي قادها الفريق المتحضر الأمريكي منذ إصراره على احتلال العراق كي يحرر العراقيين من صدام حسين ويخلص العالم من أسلحة الدمار الشامل التي يخبئها نظام صدام والأهم أن يحقق الأمن للأمريكيين ولجارة العراق دولة الصهاينة.
وجدت أن السلوكيات الحضارية التي رافقت الجنود الأمريكيين منذ اللحظات الأولى لاحتلال العراق. تمثلت في إبادة الكثير من أبنائه وتدمير ونهب ثرواته النفطية والمعدنية الأخرى وإنهاء جيشه الوطني وتفتيت قدراته العسكرية والأمنية والصناعية العلمية والتعليمية، وتم معه نهب ثروات البلاد. ومعها العملات النقدية الأجنبية وغالبية ممتلكات الدولة بكل قطاعاتها الإنتاجية والخدمية والمصرفية.
وجدت أن هناك مؤشرات (حضارية للاحتلال) توضح الكم الهائل لهذا التدمير والنهب، فالمعلومات تؤكد أنه فقط في أيام المندوب الأمريكي الذي سبق بريمر تم تدمير ونهب أكثر من 1200 مصنع عراقي، وتم أيضا نهب قصور الدولة بكل ما فيها. وذكر أنه خلال 20 يوما كانت الطائرات الأمريكية العملاقة تنقل ما في هذه القصور وقد قيل إن هناك مئات الملايين من العملات الصعبة.
وكميات من الذهب والنفائس كانت في داخلها وفي أماكن الدولة الأخرى والوزارات والبنوك؟! وكي أفهم هذا السلوك الحضاري الأمريكي وجدت أنه قبل هذا الاحتلال كانت حرب 1990 م وخلالها دكت البلاد من جنوبها إلى شمالها بأكثر من 130 ألف طن من القنابل المدمرة ومنها الممنوعة والمحرمة التي أضافت إلى التدمير تلويث البيئة العراقية التي ستبقى نتائجها المدمرة على الإنسان والحيوان والحياة والهواء والزراعة مئات السنين أو آلاف السنين، وجدت أيضا توجهات (لائقة وحضارية) امتدت إلى رحم الأمهات العراقيات كي ينجبن مواليد مشوهه من جراء اليورانيوم الذي أسقط على أرض العراق!!
ثم كان هناك حصار على مدى 14 عاما! وقتل مليون طفل عراقي (بطريقة حضارية) كما هي في مفهوم المدافعين عن جمجمة بوش من نعل منتظر!! وفرحت مادلين أولبرايت بهذه النتيجة ولكن (بعبارات حضارية ولائقة جدا) الجميع يذكرها إلا المدافعين إياهم!!
أيضا جاءت تصريحات صحيفة "الفاينانشيال تايمز" قبل أعوام بشأن استنزاف الاحتلال لمستقبل العراق بعد هجرة عدد كبير من علمائه وأساتذته للخارج لتنكأ الجرح الغائر في الوجدان العربي والإسلامي. لقد أطلق الاحتلال الأمريكي يد الكيان الصهيوني لتنفيذ أبشع عملية إبادة للعلماء العراقيين بالتعاون مع الولايات المتحدة إلى العراق باغتيال 530 عالمًا عراقيًا وأكثر من 200 أستاذ جامعة وشخصيات أكاديمية أخرى. كما وضعت وزارة الدفاع الأمريكية عددًا من علماء العراق النوويين والبيولوجيين على قائمة المطلوبين إثر الغزو, وذكر بعض المشاركين في ندوة عقدت في القاهرة أن 17 ألف عالم عراقي هاجروا إلى الخارج هربًا من الاضطهاد, وأشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة أخيراً إلى أن الحرب شردت 4.5 مليون عراقي. من ناحية أخرى أثار الاحتلال النعرات الطائفية في العراق بعد أن ظلت خامدة لفترة طويلة تحت حكومة مركزية قوية. يخسر العراق يومًا بعد يوم حاضره تحت هذا الاحتلال ولكنه يخسر أكثر على المدى البعيد بعد انهيار بنيته التحتية وتصفية نخبته البشرية التي استغرق عشرات السنوات لتكوينها.
كي نستوعب السلوك الحضاري الذي لم يتبعه منتظر الزيدي كما يقول أولئك نجد أن ما نشر عن نماذج التعذيب في سجن أبو غريب جميعها تؤكد أن هذه السلوكيات تنم عن مرضى بالهوس الجنسي والسادي ربما يبقى (شاهدا على حضارة الجنود الأمريكيين بقيادة وزير الدفاع الأمريكي السابق رامسفيلد والجنرال الأمريكية كاربينسكي المسؤولة عن سجن أبو غريب) فالصور مقززة من تلويث للأجساد العارية للعراقيين بالمخلفات الآدمية ناهيك عن الإجبار على ممارسات شاذة يأنف قلمي عن ذكرها ولكنها تجيء الآن في سياق التدليل على (السلوكيات الحضارية واللائقة التي حملتها المجندات الأمريكيات خصوصا تلك المجندة انجلاند) التي استعانت بزوجها السادي كي يسهم معها في حفلات التعذيب الجنسية الشاذة القذرة التي مارسوها مع العراقيين الأحرار ونشرتها الصحف الأمريكية وفضحت ما حدث, ومما يؤكد هذه السلوكيات (الحضارية) أن هذه المرأة الجنرال جانيس كاربينسكي حملت مسؤولية اتخاذ القرارات (اللائقة والحضارية!!) لضابطين رفيعي المستوى في العراق آنذاك هما الميجر جنرال جيفري ميلر واللفتنانت جنرال ريكاردو سانشيز. وقالت إن كلا الرجلين رغبا أن يحولا السجن إلى نمط سجن غوانتانامو!!
ناهيك عن قصص الاغتصاب التي عانت منها حرائر العراق ثم قتلهن. إذا هذا غيض من فيض من السلوكيات الحضارية التي رافقت المهمة (الربابنة لبوش) كي يحرر العراقيين من صدام.
ولكن هذا التحرير لا يراه الجنرال ديفيد بيترايوس قائد القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط الذي حذر أخيراً من أن تحسن الأوضاع الأمنية على الجبهة العراقية خلال الفترة الماضية, لا ينفي أن قوات الاحتلال الأمريكية وحلفاءها سيواجهون قتالاً عنيفًا خلال العام المقبل وأن الأوضاع الأمنية في العراق مازالت هشة.
ختاما: نجد أن تقرير منظمة العفو الدولية، والتقارير الأخرى، ومنها إعلان الأمم المتحدة في العام الماضي، ذكرت أن الأوضاع في العراق أدت إلى أكبر موجة نزوح في المنطقة منذ عام 1948م بعد احتلال فلسطين، وهي شهادات إدانة دولية للاحتلال الأمريكي، الذي تسبب في كوارث إنسانية كبيرة وفادحة، فالاحتلال هو المسؤول المباشر قانونيا وماديا عن محنة هؤلاء اللاجئين. فالتقارير الدولية والإعلامية ما انفكت أيضا تتحدث عن اضطرار أطفال ونساء عراقيات لامتهان الدعارة من أجل سد الرمق، أليست الإدارة الأمريكية هي المسؤولة قانونيا وأخلاقيا وماديا عما يجري لأولئك الضحايا من إذلال ومعاناة؟
إذا الحديث عن تحسن الأوضاع في العراق، الذي تردده الإدارة الأمريكية، وكان بوش يومئ به قبل أن يردد باللغة العربية (شكرا جزيلا) وكأنه يشكر رغبة منتظر في وداعه بالحذاء. هو ضرب من الهذيان فتفاقم معاناة الملايين من العراقيين وتدمير حياتهم ومستقبل أطفالهم، لا تخلوا منه أي تقارير دولية محايدة حتى من قبل العقلاء الأمريكيين الذين فرحوا بضربة الحذاء مثلنا.
هذه الجولة البسيطة في صفحات احتلال العراق هل نجد فيها أي (سلوك حضاري) يفرض على منتظر الزيدي أن يكتفي بتوجيه سؤال محرج لبوش فقط؟
بقيت سطور من بيانات الدفاع عن رأس بوش يقولون فيها: إنه على السعداء بهذه الضربة أن يتخيلوا ما الذي كان سيحدث لمنتظر لو رمى بحذائه على أحد ضيوف صدام حسين؟
ويدعون أن ما اتخذ مع الصحافي منتظر يرقى للأسلوب الديمقراطي!! نسوا أنه ضرب ضربا مبرحا أمام الرئيس بوش!! ومن قبل رجال الأمن الأمريكيين والعراقيين وإلى الآن رفضوا أن يظهر على الملأ كي لا يشاهد العالم آثار (السلوك الحضاري الذي يتنعم به الآن)!! أليس هذا يؤكد (مدى عمق المأزق الحضاري والقيمي الذي بات يطبق علينا في هذا الجزء من العالم)؟؟!!