تقرير دولي: المسؤولية الاجتماعية للشركات لماذا الآن
يقول دانيل فرانكلين إن المسؤولية الاجتماعية للشركات أصبحت اتجاها سائدا بعدما كان ينظر إليها كأحد الأعمال التطوعية الثانوية، إلا أن التنفيذ الجيد لها مازال يقتصر على عدد محدود جدا من الشركات.
طال الحديث في بهو مقر شركة ماركس آند سبنسر في لندن إحدى أكبر محلات التجزئة عن التقدم الحاصل في "الخطة أ" التي نصت على تحقيق 100 هدف سام ٍ في غضون خمس سنوات حيث ستعمل الشركة على دعم 15,000 طفل في أوغندة بمنحهم تعليما أفضل، وتضم الخطة تقليل 55,000 طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا وإعادة تدوير تعليقات الملابس ومضاعفة مبيعات الأغذية العضوية بمقدار ثلاث مرات، كما تهدف إلى تحويل ما يقارب 20 ألفا من الملابس لتجارة القطن، وسيكون هناك مسؤولون للـ"خطة أ" في كل فروع الشركة.
وقد يظهر جليا في شعار الشركة الاتجاه الحالي لما يعرف بالمسؤولية الاجتماعية للشركات، أولا لم يتقبل الكثير مصطلح المسؤولية الاجتماعية للشركات، فقد أطلقت الشركة في السنة الماضية ما يسمى بـ"الخطة أ" بدلا من خطة المسؤولية الاجتماعية للشركات "لعدم وجود خطة ب"، كما تسمى اللجنة التنفيذية التي تولت مراقبة الخطة بلجنة "كيف ننجز أعمالنا"، وتفضل بعض الشركات الأخرى وصف هذا النوع من الأعمال بـ"مسؤولية الشركات "مغفلة بذلك الشق الاجتماعي من المصطلح، ويطلق عليها البعض الأخر "مواطنية الشركات " أو "بناء التجارة المستدامة"، ويتباهى المسؤولون الغربيون بالمسمى الوظيفي للإشراف والمسؤولية وإدارة الهدف النهائي المضاعف، وكلها ترمز لأمر بسيط ألا وهو نية الشركات للتوجه لأعمال الخير.
ثانيا، تظهر قوائم الشركة جميع النشاطات التي تدخل تحت مظلة العمل الخّير و يشمل ذلك جميع الأمور ابتداء من التطوع في المجتمع المحلي للاهتمام بالموظفين بشكل جيد إلى مساعدة الفقراء لإحداث التوازن على الأرض، وقد يصعب على الكثير من الشركات تحديد الأولويات في ظل وجود مشروع متشعب وواسع النطاق مثل هذا المشروع.
ثالثا، تبرهن شركة ماركس آند سبنسر أن المسؤولية الاجتماعية للشركات عامل مهم في الازدهار حيث ترغب الكثير من الشركات الكبيرة في إظهار مواطنيتها للعالم أجمع سواء باستخدام شاشات إلكترونية أو لوح إعلانات أو تقارير مصقولة، كما تحاول إيصا تلك الرسالة عبر مواقعها الإلكترونية وفي حملاتها الإعلانية، ولم يتوانى الرؤساء التنفيذيون في تلك الشركات عن الظهور في المؤتمرات لتوضيح اندفاعهم لخدمة المجتمع أو التزامهم بنسب معتدلة من الكربون.
ولا يعني ذلك أن فكرة المسؤولية الاجتماعية للشركات تحولت فجأة لفكرة رائعة، حيث علقت إحدى الصحف بأنها عمل مضلل أو حتى أسوأ، ولكن يمكن عمليا للقليل من الشركات الكبيرة أن تتجاهل ذلك بكل بساطة.
تشكل المسؤولية الاجتماعية للشركات بالإضافة إلى ما سبق أرضا خصبة لطرح الأفكار والاستشارات، كما تنتفع الحكومات منها انتفاعا كبيرا، ففي بريطانيا، على سبيل المثال، يلزم قانون الشركات لعام 2006 الشركات العامة بالدخول في مشاريع اجتماعية وبيئية، وتقوم الأمم المتحدة بدعم المسؤولية الاجتماعية للشركات في جميع أنحاء العالم عن طريق طاقم عمل اتخذ من نيويورك مقرا له ويدعى "الميثاق الدولي للأمم المتحدة".
كما تضيف المعاهد التجارية بدورها العديد من المناهج الدراسية والأقسام المتخصصة لتنال رضا طلاب الدراسات العليا في الأعمال، ويقول توماس كولي عميد كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك:" زادت الحاجة إلى نشاطات المسؤولية الاجتماعية للشركات خلال السنوات الثلاث الماضية"، كما امتلأت المكتبات بكتب تحمل العناوين " اتجاه الشركة للخير"و" خلف الشركة الخيرة"و" من الألف إلى الياء في المسؤولية الاجتماعية المشتركة".
لماذا المسؤولية الاجتماعية..؟
لما ذلك الانتشار الهائل؟ لعدة أسباب ومنها أن الشركات تحتاج إلى بذل الجهود في سبيل المحافظة على سمعتها وعلى البيئة التي تعمل فيها أيضا، كما أدت الفضائح التي طالت شركات ضخمة مثل: انرون و ووردكوم وغيرها إلى تحجيم الثقة في تلك الشركات وسن الحكومة لأنظمة صارمة، كما تقف العديد من المنظمات غير الحكومية التي انتشرت على نطاق واسع في وجه أي أخطاء تقترفها الشركات الوطنية إضافة إلى الضغط الكبير الذي يقع على الشركات من جراء إجراءات التصنيف والترتيب للإعلان عن أدائها غير المالي ونتائجها المالية, كما أن الشركات أصبحت تخضع للمراقبة أكثر من أي وقت مضى، وها نحن نشاهد الأخبار المخجلة تنتشر حول العالم كانتشار النار في الحطب، فقد تلتقط الكاميرات طفلا يعمل على قطعة ملابس تحمل شعار شركة ما وتنتشر الصور في كل مكان في غضون لحظات، والفضل يعود في ذلك للإنترنت.
تزايد القلق في الوقت الحالي بشأن تغيرات المناخ الذي قد يكون الدافع الرئيسي في نمو الصناعة المتأخرة للمسؤولية الاجتماعية للشركات حيث قاد الالتفات الهائل للطاقة الخضراء الشركات، الواحدة تلو الأخرى, للنظر في الأثر الذي تحدثه كل منها على البيئة، ولا عجب أن نجد أن 95 في المائة من الرؤساء التنفيذيين الذين شملهم المسح الذي قامت به مؤسسة ميكنسي الاستشارية ذكروا أن المجتمع يتوقع من الشركات التجارية أن تحمل المسؤوليات العامة على عاتقها بشكل أكبر مما كانت تفعل قبل خمس سنوات.
بدأ المستثمرون أيضا في إظهار اهتمامهم بذلك، فعلى سبيل المثال يستخدم دولار في كل تسعة دولارات تعود للإدارة المهنية في الولايات المتحدة في أحد عناصر الاستثمار الاجتماعي وفقا للتقرير الصادر عن كلية الأعمال التابعة لجامعة كولومبيا، كما بدأت بعض البنوك الكبيرة مثل جولدمان ساتشيز ويو بي إس في دمج القضايا الاجتماعية والبيئية والإدارية في بعض أبحاث المساهمة. ترسل الصناعة المالية في الواقع إشارات مزدوجة، فهي تطالب بنتائج مالية جيدة بغض النظر عن الأمور الأخرى، في حين تستمر الشكوك في بعض أجزاء العالم المالي وبالتحديد في المساهمات الخاصة حول المسؤولية الاجتماعية للشركات، ولكنها يجب أن تستجيب للضغوط العامة وذلك بالموافقة على قوانين الشفافية الطوعية.
إضافة إلى هذه الضغوط الخارجية تواجه الشركات مطالبة موظفيها بتطبيق منهج المسؤولية الاجتماعية للشركات حتى أنها أصبحت جزءا مهما من عملية التنافس في المواهب، ولو سألت أي شركة كبيرة عن منطقها العملي في جهودها التي تبذلها في المسؤولية الاجتماعية للشركات فإن الجواب هو محاولتها لتحفيز طاقمها وجذبهم والاحتفاظ بهم، ويقول مايك كيلي المسؤول عن منهج المسؤولية الاجتماعية للشركات في الفرع الأوروبي لشركة كي بي ام جي ((KPMG المحاسبية:" يريد الناس العمل في شركة تشترك معهم في القيم والوطنية".
هل بات العمل الخيري يزيد على الحاجة؟
قد تعتقد نظرا لانتشار منهج المسؤولية الاجتماعية المشتركة أن الشركات الكبيرة أصبحت تزدحم بالأعمال الخيرة لكن القليل منها فقط هو كذلك.
تتكون المسؤولية الاجتماعية المشتركة حاليا من ثلاث طبقات واسعة,الواحدة فوق الأخرى، وأكثرها أهمية هو التبرع المشترك التقليدي حيث تخصص الشركات عادة ما يقارب واحد في المائة من أرباحها لوضعها في أمور ذات نفع لأنها ترى بأن مساعدة المجتمع هو أفضل ما يمكن أن تقدمه، إلا أن العديد من الشركات حاليا لا تشعر بكفاية هذا النوع من التبرع الذي لا يتعدى كتابة الشيكات للجمعيات الخيرية حيث يريد المساهمون في الشركة معرفة أين وضعت أموالهم كما يرغب الموظفون في المساهمة بشكل أكثر فعالية في الأعمال الخيرية.
ولا تعد الأموال التي تنفقها الشركة في الأعمال الخيرية جوابا شافيا إذا ما تمت مساءلتها عن سلوكها, وهنا تظهر الطبقة الثانية من المسؤولية الاجتماعية لشركات وهي أحد فروع إدارة المخاطر, وكانت البداية في الثمانينيات حينما ظهرت الكوارث البيئية كالانفجار الذي وقع في مصنع بوبال للمبيدات وكارثة التلوث من جراء تسرب نفط ناقلة إكسون فالديز، وبدأت الصناعات، الواحدة تلو الأخرى, تعاني من تشوه سمعتها، وقد شُن هجوم هائل على شركة بيق فارما (Big farma) لرفضها تخفيض أسعار المضادات الفيروسية لمرضى الإيدز في الدول النامية. أما في صناعات الملابس، هوجمت شركتا "نايك وقاب" لتوظيفهما للأطفال، وواجهت شركات الأطعمة انتقادا حادا نتيجة معدلات البدانة المتزايدة، وكانت قوقل من ضمن شركات التقنية الأمريكية العملاقة التي عدلت من سلوكياتها بعد المطالبة باستجواب الكونغرس الأمريكي لها بشأن نشاطاتها في الصين.
وتستجيب الشركات لذلك متأخرا عادة عن طريق محاولتها إدارة المخاطر فتخاطب المنظمات غير الحكومية والحكومات لوضع قوانين سلوكية والتزاما منها بمزيد من الشفافية في عملياتها، كما اجتمعت تلك الشركات مع المنافسين لهم في الصناعة نفسها في محاولة لوضع قوانين مشتركة وتقليل المخاطر التي قد تتعرض لها ولمحورة الآراء.
وكل ما سبق يعبر بشكل كبير عن المواقف الدفاعية التي تتخذها الشركات، لكنها أيضا ترغب في التأكيد على الفرص المتاحة لكل من يستحقها ولذلك فالتأكيد على الفرص هو الطبقة الأخيرة والرائجة للمسؤولية الاجتماعية للشركات وهي الفكرة التي تساعد على خلق القيم. نشرت مجلة هارفارد بزنس في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2006 بحثا قام به كل من ميشيل بورتير ومارك كرامر حول الكيفية التي يمكن أن تصبح بها المسؤولية الاجتماعية المشتركة جزءا من الميزة التنافسية للشركات إذا ما تم تطبيقها بطريقة استراتيجية مدروسة.
وهذا ما يهم الرؤساء التنفيذيين للشركات، إن شعار"العمل الجيد بالعمر الخير" أصبح الوصفة الدارجة للنجاح حيث تبنت الشركات باندفاع كبير فكرة غرس المسؤولية الاجتماعية للشركات في جوهر عملياتها لتصبح جزءا من كيانها وتؤثر تأثيرا كبيرا في اتخاذ القرارات داخل الشركة.
هناك دلائل على أن جهود الشركات تتجه أكثر للطرق الاستراتيجية حيث ذكرت لجنة تعزيز الإحسان المشترك وهي جمعية تجارية تتخذ من نيويورك مقرا لها أن نسبة الأعمال الخيرية للشركات ذات الأهداف الاستراتيجية زادت من 38 في المائة في سنة 2004 لتصل إلى 48 في المائة في سنة 2006، إلا أن الاستراتيجية المشتركة لا تطبق بشكل صحيح في العادة.
ويقول بورتر في مركز هارفارد للأعمال أنه بالرغم من الاندفاع الكبير نحو المسؤولية الاجتماعية للشركات إلا أنها غير مركزة وجبرية, ووصف هذا الاتجاه في خلق القيم بالبرهان الإيماني، تواجه الشركات التي تحاول أن تحسن من وضعها أسئلة المسؤولين المستعصية؛ هل يمكن قياس أداء الشركة في المسؤولية الاجتماعية للشركات ؟ هل يجب أن تتعاون مع المنظمات غير الحكومية ومع المنافسين؟ هل هناك ميزة تنافسية فعلية للاستراتيجية الخضراء(الحفاظ على البيئة)؟ كيف يمكن للشركات الصينية والهندية والأسواق الناشئة الأخرى أن تلعب دورا حيويا في ذلك؟
إن هذا التقرير الخاص يلقي الضوء عن كثب على الكيفية التي يمكن للشركات بها أن تطبق منهج المسؤولية الاجتماعية المشتركة ويستخلص أن السلوك المشبوه للشركات يلحق بها أضرارا بالغة في حين أن الأعمال الجيدة هي حجر الزاوية للحياة المشتركة التي تحتفظ بقيمها، ولا يمكن أن توصف هذه الأعمال بالأعمال المستقلة الثانوية التي تقوم بها الشركة من حين لآخر بل هي أساس عمل الشركات، إنه العمل الخير.