نجاح الاستراتيجية الأمنية للحج يتطلب تعاوناً صادقاً من الحجاج أنفسهم

لقد أخذت السعودية على عاتقها منذ عهد المغفور له جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ مهمة تحقيق الأمن والاستقرار في أنحاء المملكة كافة، خاصة في الأماكن المقدسة التي تتمتع بذاتية خاصة، وهي مهمة فرضها النظام الأساسي للحكم في المملكة الصادر في 27/8/1412هـ، حيث نص على أن: "تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة" (م24). لذا فلا عجب أن تتضافر جهود السلطات المختصة وتسهر على دراسة وتطبيق أفضل السبل لرعاية حجاج بيت الله الحرام، وخدمتهم، وتوفير الأمن والأمان لهم. يأتي في مقدمة الجهات المسؤولة عن توفير هذا الهدف وزارة الداخلية بجميع قطاعاتها، ولجنة الحج التي تبذل قصارى جهدها على مدار العام لدراسة الاستراتيجيات الملائمة وتطوير الخدمات التي تُقدم لهم وتَدارك أوجه القصور التي كشف عنها التطبيق العملي في السنوات الماضية، ثم تصدر تعليماتها السنوية المنظمة لشؤون الحج من جميع النواحي، كما تفرض رقابة صارمة على مؤسسات الطوافة التي تتعامل مع الحجاج.
وتزداد أهمية الأمن والسلامة للحجاج في الوقت الحاضر بسبب كثرة أعداد الحجاج الذين يأتون من كل فج عميق من أرجاء المعمورة من مختلف الجنسيات واللغات والثقافات والأعمار والأجناس والألوان، فتتجمع أعداد ضخمة في أوقات مُحددة وأماكن مُحددة، ما يتطلب اتخاذ إجراءات أمنية على درجة عالية من الكفاءة، تتمثل في الاستراتيجية الأمنية للحج التي تهدف إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسة هي: المحافظة على النظام العام، وحماية الأرواح والممتلكات من خلال منع الجريمة وضبط مُرتكبيها، والمحافظة على الحقوق العامة والخاصة للحجاج، وتنظيم المرور بما يضمن أداءهم للفريضة بكل يسر وسهولة في أثناء المواعيد الزمنية المُحددة شرعاً.
الحقيقة أن نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب تضافر جهود مشتركة ومتكاملة من ثلاثة أطراف: السلطات الأمنية وباقي الأجهزة الحكومية السعودية من ناحية، الحجاج أنفسهم من ناحية ثانية، والأشخاص الذين يتعاملون مع الحجاج، سواء أكانوا مواطنين أم مُقيمين في السعودية أم خارجها، من ناحية ثالثة.
فيبدو دور الأجهزة الحكومية، في توفير الأمن والسلامة والرعاية للحجاج طيلة فترة الحج؛ أما المتعاملون مع الحجاج فيقع عليهم التزام مهم يتمثل في الصدق في التعامل معهم وعدم الغش أو التدليس، ومحاولة توفير الخدمات المُناسبة لهم، وعدم التستر على المُتخلفين منهم بعد موسم الحج. يتمثل دور الحاج نفسه في تأدية فريضة الحج لمرة واحدة وإفساح المجال للآخرين، وأن يسهم أثناء الحج في توفير الأمن والسلامة له ولغيره من الحجاج؛ ذلك أن بعض الحجاج لا يكتفون بتأدية الحج لمرة واحدة، بل يحرصون على تكرار الحج أكثر من مرة، ومزاحمة الآخرين، ويتباهون بذلك، ظناً منهم أنهم سيحصلون على أكبر قدر من الثواب. ترجع أسباب هذه الظاهرة إلى سهولة رحلة الحج في أيامنا هذه، حتى أنها أصبحت أشبه بالرحلة السياحية، فضلاً عن وفرة الخدمات التي تُقدم للحجاج، بفضل الله تعالى ثم الجهود السعودية، وسهولة وسائل الاتصال بين الدول، فلم يعد الحاج يتحمل مشقة مثلما كان عليه الحال في العهود السابقة.
وللتقليل من الازدحام في المناسك تشترط المملكة (في ضوء قرار المؤتمر الـ 17 لوزراء خارجية الدول الإسلامية الذي عقد في عمان عام 1408هـ) نسبة ألف حاج لكل مليون من السكان، فلا تسمح لأية دولة بأكثر من العدد النسبي لعدد سكانها. وبذلك فإن تنظيم مسألة الحج أكثر من مرة يخضع بالنسبة لحجاج الخارج للقواعد التي تضعها دولة الحاج ولا شأن للسعودية بها، فضلاً عن ذلك فإن حجاج الداخل من المواطنين السعوديين والمقيمين كانوا يحجون غالباً أكثر من مرة واحدة، لسهولة انتقالهم إلى الأراضي المقدسة، وقلة التكلفة المادية، وعدم وجود إجراءات ولا تأشيرات ولا سفر بالطائرات أو البواخر مثل تلك التي يخضع لها الحجاج القادمون من الخارج، لهذا فقد واجهت وزارة الداخلية ظاهرة الحج أكثر من مرة فوضعت تنظيماً ملزماً بخصوص حج المواطنين والمقيمين، فاشترطت أن يحصل كل مسلم من حجاج الداخل على تصريح رسمي بالحج من إدارة الجوازات التي يتبعها محل إقامته بالنسبة للمقيم، وبطاقة حج بالنسبة للمواطن، بشرط أن يكون قد مضى على حجه السابق خمس سنوات. وتتعاون الأجهزة الأمنية في هذا الصدد تعاوناً فاعلاً ومشكوراً، وتُشدد على أنها لن تتهاون في تطبيقه. وهنا يبدو نموذج فريد في تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ومع ذلك، فإننا نرى أن هذه الظاهرة تتطلب مزيداً من الضبط والتنظيم والتوعية للناس بأبعادها الدينية، من حيث الثواب في الآخرة من ناحية، ومن حيث الأضرار التي تقع على الآخرين نتيجة مزاحمتهم من ناحية أخرى. فالحج فريضة فرضها الله تعالى على عباده مرة واحدة في العمر، وهو مشروط بالاستطاعة، أي القدرة على تأدية المناسك من الناحيتين المادية والجسمانية. وإذا كانت الاستطاعة المادية متوافرة لدى بعض الناس، بحيث يستطيع أن يؤدي الحج أكثر من مرة واحدة، فإنه بعمله هذا سيعوق الحجاج الآخرين ويزاحمهم، ومن ثم يؤثر في قدرتهم واستطاعتهم تأدية مناسكهم في يسر وسهولة، وبذلك يمكن أن يقع عليه وزر بسبب مشاركته في الإضرار بالآخرين. والمُتتبع لسيرة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبصر أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يحج إلا مرة واحدة بعد هجرته وهي حجة الوداع، ولنا فيه الأسوة الحسنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي