من العالم الثالث إلى الأول "قصة سنغافورة 1965 – 2000" (الحلقة الأولى)

من العالم الثالث إلى الأول "قصة سنغافورة 1965 – 2000" (الحلقة الأولى)

كتاب "الاقتصادية" الأسبوعي: لي كوان يو: "هنالك كتب تعِّلمك كيف تشيِّد منزلاً.. لكنني لم أشاهد كتباً حول كيفية بناء دولة" لي كوان يو الذي قاد عملية الإصلاح في بلاده يكشف عن تجربتها: من العالم الثالث إلى الأول تم تدريب المواطنين وتجهيزهم وتأهيلهم لتقديم معايير العالم الأول في الخدمة تتحقق العدالة بتوزيع المشكلات والأعباء على الجميع.. البطالة مثلاً تتوزع بالتساوي! أعظم مواطن القوة تتمثل في ثقة وإيمان الشعب بقائده نفذت استراتيجية بمحورين.. التقدم على كل دول المنطقة وإيجاد واحة من العالم الأول في منطقة عالم ثلاثي! بذلت جهوداً شاقة لجذب الاستثمارات في مجال إنتاج سلع القيمة المضافة المرتفعة مقدمة بالنسبة إلى شعوب آسيا، فإن أحداً لم يتصدّ لرواية القصة السنغافورية الحقيقية كما فعل لي كوان يو رئيس الوزراء السنغافوري الأسبق. حيث يستعرض في كتابه الصادر حديثاً تفاصيل ووقائع انتقال هذه الدولة الصغيرة من هوامش العالم الثالث إلى مصاف دول العالم الأول، اقتصاداً وصناعة وتجربة حضارية تستحق الاهتمام. وتاريخ معاصر وجريء لإحدى أهم التجارب الآسيوية في العصر الحديث. مذكرات لي كوان يو لمؤلفه لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة الأسبق وترجمه إلى العربية معين محمد الإمام، وتنشره مكتبة العبيكان في الرياض الطبعة العربية الأولى 1426هـ ـ 2005. هذا الكتاب الذي يتضمن 964 صفحة من الحجم المتوسط, قسَّمه المؤلف إلى تمهيد ومقدمة وثلاثة أجزاء على النحو التالي: الجزء الأول بعنوان: الحصول على الحصة الأساسي, والجزء الثاني بعنوان بحثاً عن مكان إقليمي دولي, والجزء الثالث يحمل عنوان: إعداد الترتيبات للتنحي, تناول من كل جزء منها مواضيع عديدة. سنعرض هذا الكتاب في حلقتين: نتناول فيهما وصفاً موجزاً لمضمونه ثم الدروس المستفادة من هذه التجربة الفريدة والنموذجية لدولة صغيرة نامية استطاعت أن تنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة التي حققت خلال 35 عاماً إنجازات غير عادية، وذلك باتباع منهجية اقتصادية محددة من خلال تصميم رجالها على الوصول إلى الأهداف المنشودة بأقصر الطرق الممكنة, حيث سنركز على الجوانب الاقتصادية في هذه التجربة الناجحة. ومن المفيد أن نشير بادئ ذي بدء إلى أن أهمية هذا الكتاب الذي بين أيدينا ترجع إلى أنه يحكي تجربة دولة وليست تجربة شخصية بحتة, كما أنه لا يُعتبر كتاباً أكاديمياً يميل إلى التنظير بسرد النظريات الشخصية والمبادئ المثالية التي قد لا تجد حظها من التطبيق العملي الواقعي, وحتى إذا تم تطبيقها فيكون مثل هذا التطبيق جزئيا لا كليا ثم تظهر صعوبات في التطبيق وانتقادات مما يجعل هناك فجوة بين النظرية والواقع العملي. ومما يؤكد أهمية هذا الكتاب أن مؤلفه هو رئيس وزراء سنغافورة الذي قاد عملية الإصلاح الاقتصادي والتنمية، وليس كاتباً يسعى إلى سرد تجارب الآخرين أو التعليق عليها. وهذا الذي تناوله المؤلف يعطي مصداقية للكتاب، فهذا الأخير يكشف عن تجربة فعلية يلمسها الجميع. ولقد أشار العديد من الشخصيات المهمة من رؤساء الدول والحكومات، وممثلي المنظمات الدولية ووزراء الخارجية وغيرهم سواء من الدول المتقدمة أو النامية والخبراء الاقتصاديين على المستوى الدولي إلى أهمية هذا الكتاب، منهم كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة الذي رأى أن هذا الكتاب يعبر عن طموحات الدول النامية كافة.. وأنه سيحظى بأهمية بالغة بالنسبة لشعوب الدول النامية الأخرى، وكل الذين يهتمون بمصيرهم ومستقبلهم. والكتاب أيضاً مقدم بأسلوب مباشر، واضح، ينعش العقل والنفس، أثار الكتاب اهتمامي إلى أقصى حد ممكن. ويشير مؤلف هذا الكتاب إلى أهمية كتابه بقوله: "هنالك كتب تعلمك كيف تشيد منزلاً، وتصلح محركاً، وتؤلف كتاباً، ولكنني لم أر كتباً حول كيفية بناء دولة انطلاقاً من مجموعة من المهاجرين اليائسين القادمين من الصين والهند البريطانية وجزر الهند الشرقية (الهولندية)، أو كيف يكسب شعبها لقمة العيش حين تتوقف عن لعب دورها الاقتصادي السابق كمركز محوري للتصدير والاستيراد في المنطقة. ولقد قدم لهذا الكتاب في تمهيد الدكتور هنري كسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق. أما في مقدمة الكتاب فيذكر مؤلفه أنه كتب هذا المؤلف من أجل الجيل الشاب من السنغافوريين الذين اعتبروا الاستقرار والنمو والرخاء قضايا مسلماً بها، وأنه أراد منهم أن يدركوا حجم المشكلات التي واجهتها دولة صغيرة محرومة من الموارد الطبيعية لا تتجاوز مساحتها 640 كم2، كي تتمكن من البقاء وسط دولة أكبر مساحة وبهذا يلفت المؤلف نظر الشباب إلى مسألة مهمة ما أحوجنا في هذا العالم ـ خاصة دول العالم الثالث ـ إليها، وهي مسألة العزم والتصميم على بلوغ الأهداف مهما كانت الصعوبات ومهما كانت الإمكانات المادية، كما يشير إلى موضوع القدوة والنموذج الصالح الذي يجب أن يقتدي به الشباب في حياتهم العملية من أجل تحقيق التقدم والرخاء والازدهار. ويُغطي هذا الكتاب فترة طويلة من الجهد المضني للعثور على الطرق الكفيلة باستقلال دولة سنغافورة ووقوفها على أقدامها بعد أن سحب البريطانيون قواتهم منها. ويتناول الجزء الأول من هذا الكتاب حصول سنغافورة على حقها الأساسي في الاستقلال، ثم يندرج تحت هذا الجزء عدد من العناوين الفرعية, توضح كيف أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة وانفصلت عن ماليزيا ومدى الصعوبات الهائلة التي واجهتها والتي لم تكن تبشر ببقائها واستمرارها. وقد انشغل لي كوان يو في هذه الفترة بالحصول على الاعتراف الدولي باستقلال بلاده بما في ذلك عضويتها في الأمم المتحدة, ثم اتخذ الإجراءات الكفيلة بالدفاع عن أراضيها وذلك بتأسيس جيش وطني وقوات أمن تحمي البلاد فأسس وزارة الداخلية والدفاع MID, ثم بدأ في مشكلة أشد ضراوة وهي بناء الاقتصاد الوطني, حيث يقول إنها المشكلة التي سببت لي أشد أنواع الصداع إيلاماً، خاصة وأن البطالة بلغت نسبة منذرة بالخطر 14 في المائة مع توقع تفاقمها, ومن ثم كان الشغل الشاغل لمؤلف الكتاب هو البحث عن نمط جديد من الاقتصاد, وتجريب طرائق وبرامج جديدة ما اختبرت قبلاً في أي مكان في العالم، ومن ثم كان من الواجب بذل جهود استثنائية لكي تصبح دولة ويصبح شعبها متماسك اللحمة، عاقد العزم قوي البنيان قادراً على التكيف والأداء بصورة أفضل وأرخص من جيرانه. وعلى الرغم من ضعف الموارد ـ بل الأحرى شبه انعدامها - فقد تمثل أعظم مواطن القوة في ثقة وإيمان الشعب بقائده. وكان مصدر القوة الثمين الآخر يتمثل فيما تميز به شعب سنغافورة من الجد والنشاط والتعطش إلى التعلم والمعرفة، وذلك على الرغم من انقسام أفراده إلى عدة أعراق وأجناس، لكن قائدهم كان يرى أن تماسك هذا الشعب لن يتم إلا باتباع سياسة نزيهة وعادلة بحيث تجعلهم يعيشون في وئام معاً، وما هذا السلوك إلا تطبيق للحكمة القائلة "العدل أساس الملك". ورأى القائد أن العدالة تتحقق حتى بتوزيع المشكلات والأعباء على الجميع. فالبطالة مثلاً تتوزع عليهم بالتساوي. ويروي لي كوان يو كيف كان يتحمل العناء والسهر من أجل مستقبل شعبه ليوفر له لقمة العيش الكريم والأمن، وكيف كان يؤرقه التفكير في مصير الشعب حتى ظل النوم عصياً على أجفانه. ثم بدأ القائد في بناء جيش من لا شيء، على الرغم مما واجهه من حوادث شغب عنيفة عام 1966، ثم حوادث شغب عرقية بين الصينيين والملاويين، وكان لهذه النزاعات العرقية أثرها على الجيش والشرطة. ولكنه استعان بجيش الاحتياط، واستخدم الأفراد الأكبر سنًا والنساء في المهمات غير القتالية. وأنشأ معهداً وطنياً لتدريب طلاب الجيش وآخر لطلاب الشرطة في المدارس الثانوية. ولقد قرر لي كوان يو عدم إنفاق المال لتغطية تكاليف الاحتفاظ الدائم بجيش ضخم، حيث رأى أنه من الأفضل صرفه على البنية التحتية اللازمة لتكوين وتدريب كتائب المجندين من الموظفين والعاملين, ثم أصدر قانونا يعدل نظام الخدمة الإلزامية، بحيث يضمن للمجندين في القوات المسلحة فرص العمل في وظائف الحكومة والهيئات القانونية والقطاع الخاص بعد تقاعدهم من الخدمة وتحولهم إلى قوات الاحتياط، وأخضعهم لتدريب سريع. وتعرضت البلاد لحوادث اعتداءات على السفارة السنغافورية، وحوادث أخرى داخلية بسبب التوتر العرقي ولكن قوات الشرطة سيطرت عليها. وحتى عام 1971, أصبح لدى سنغافورة 17 كتيبة من المجندين (16000 رجل) إضافة إلى 14 كتيبة من الاحتياطيين (11000 رجل) ووحدات من المشاة والكومندوس والمدفعية وأسراب من الطائرات الحربية وطائرات النقل. كما تم بناء قوة بحرية. وتم تجنيد ألمع وأقدر الطلاب في القوات المسلحة لتزويدها بالعقول المفكرة والأجساد السليمة، وتم إرسال أفضل الضباط والطلاب في بعثات عسكرية للدراسة في أكسفورد وكامبردج، حتى أن أربعة منهم أصبحوا وزراء في الحكومة. ونظراً لعدم وجود مساحة كافية لتدريب القوات العسكرية فقد تم تدريب المشاة والمدفعية والدروع في تايوان كما سعى القائد إلى إدخال تكنولوجيا المعلومات بأنظمة التسلح بالجيش، وأصبحت قواتها المسلحة بحلول عام 1990, قوة محترمة ومحترفة تشغل أنظمة دفاعية حديثة قادرة على الدفاع عن سلامة أراضيها واستقلالها. ولكن الأمن لم يكن هو الهاجس الوحيد لقادة سنغافورة، بل الأهم من ذلك هو كيفية كسب لقمة العيش وإقناع مستثمرين بتوظيف أموالهم في المشاريع التصنيعية وغيرها من الأنشطة التجارية في سنغافورة. ولهذا يقول مؤلف الكتاب "لقد توجب علينا البقاء على قيد الحياة، بدون المظلة العسكرية البريطانية، وبدون أرض داخلية توفر العمق الاستراتيجي". ومن هذا يتضح مدى المعادلة الصعبة المتمثلة في العزم والتصميم على البناء على الرغم من ضعف الإمكانيات. وطرحت فكرة إنشاء سوق مشتركة مع ماليزيا واستئناف تجارة المقايضة مع إندونيسيا ومحاولة السعي لتحقيق شروط أفضل لدخول البضائع المصنعة من سنغافورة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا. واستعانوا ببرنامج الأمم المتحد للتنمية UNDP. ولقد أدرك لي كوان يو أن التصنيع هو السبيل الوحيد للبقاء, وقدمت له اقتراحات ترويج السياحة لأنها توفر فرص عمل عديدة ولا تحتاج إلا لطهاة وخادمات وأدلاء سياحيين وسائقين وصناع مهرة للتحف التذكارية وهي لا تحتاج إلى رأسمال كبير. وبالفعل تم إنشاء هيئة لترويج السياحة واختير لها رئيساً مناسباً تطبيقاً للمثل القائل " الرجل المناسب في المكان المناسب". وبالفعل ساهمت السياحة في فتح مجالات للعمل للشباب وملأت جيوب العديد من المواطنين بالمال ثم اتجه لي كوان يو إلى الصناعة ووفر الحماية لمصانع تجميع السيارات والثلاجات والمكيفات وغيرها، وتم اجتذاب المستثمرين من هونج كونج وتايوان لبناء المصانع في صورة مشاريع مشتركة. وتم تحويل القواعد العسكرية البريطانية في سنغافورة إلى الاستخدام الاقتصادي. ولكي يبني لي كوان يو الاقتصاد السنغافوري زار هارفرد واضطلع على تجارب الآخرين وأفكارهم بالنسبة للمستقبل خاصة من أساتذة مدرسة هارفارد التجارية، وتعلم كيف استطلع المغامرون من أصحاب المشاريع التجارية في هونج كونج بناء صناعة نسيج وألبسة ناجحة، وذلك من خلال سفرهم مراراً لاستشارة المشترين والمستهلكين في نيويورك وغيرها من الدول الكبرى. ولم يكتف لي كوان يو بذلك بل التقى مجموعة من مديري الشركات الأجنبية من المجلس الأمريكي للشرق الأقصى واستطاع أن ينفذ استراتيجية ذات محورين أساسيين: أولهما التقدم على كل دول المنطقة, وثانيهما إيجاد واحة من العالم الأول في منطقة عالم ثلاثية. وقام بتدريب المواطنين وتجهيزهم وتأهيلهم لتقديم معايير العالم الأول في الخدمة, بإعادة تعليم وتثقيف الجميع. ورأى مؤلف الكتاب أنه كان من الواجب على سنغافورة لمواجهة هذه التحديات أن تكون أصلب عوداً وأفضل تنظيماً وأكثر كفاءةً من الدول الأخرى في المنطقة. إنشاء هيئة التنمية الاقتصادية: والتخلي عن البيروقراطية ومن أهم الجهود التي بذلها لي كوان يو إنشاء هيئة التنمية الاقتصادية 1961, كمؤسسة واحدة يسهل على المستثمر التعامل معها ولا يحتاج للتعامل مع عدد كبير من الإدارات والوزارات، أي أنه بذلك تخلى عن أسلوب البيروقراطية العقيم الذي ينفر منه المستثمر مهما كانت هناك من الميزات الضريبية والضمانات القانونية التي تنص عليها تشريعات تشجيع وحماية الاستثمار الأجنبي. وحتى تنهض هذه الهيئة بمهامها استعانت بخبراء من برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة ومن منظمة العمل الدولية لمساعدتها على الترويج والاستثمار مع التركيز على أربع صناعات أساسية هي بناء وصناعة السفن وهندسة المعادن والكيماويات والأدوات الكهربائية. واختار أفضل العلماء والخريجين المؤهلين من جامعات أجنبية للعمل بها واختار لها رئيساً مؤهلاً استطاع أن يجعل منها مؤسسة ناجحة وكانت تعقد ندوات مع مديري الشركات متعددة الجنسيات للاستماع لمشاكلهم القانونية وغيرها. ولقد لعبت الحكومة دوراً مهما في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية بتجهيز البنية التحتية المناسبة وتوفير مناطق صناعية حسنة التصميم والتخطيط وتشجيع الصادرات ومنحت إعفاء من الضرائب يصل إلى عشر سنوات مما يجعل بعض الشركات الأجنبية تقبل على الاستثمار. ولم يكن لي كوان يو يدخر وسعاً في تذليل العقبات التي تعترض المستثمرين الأجانب وقد استطاع أن يقنعهم بالاستثمار في بلاده بتجميل الشوارع المؤدية من المطار إلى فندقهم ومكتبة نظيفة ومرتبة تحفها الأشجار والخضرة، وواجه في الأعوام من 1972 إلى 1975, أزمات اقتصادية تمثلت في ارتفاع معدل التضخم من 2.1 في المائة عام 1972 إلى 22 في المائة عام 1974, وانخفاض درجة النمو الاقتصادي من 13 في المائة عام 1972 إلى 4 في المائة عام 1975, ثم بدأ يتجه إلى تحسين نوعية الاستثمارات الجديدة. وفي عام 1997 أصبح لدى سنغافورة نحو 200 شركة أجنبية مصنعة تستثمر مبلغاً يقدر بـ 19 مليار دولار وكان البريطانيون من أوائل المستثمرين هناك وتبعهم الهولنديون والفرنسيون. وبذلت هيئة التنمية الاقتصادية جهدا شاقاً لاجتذاب الاستثمارات في مجال إنتاج سلع القيمة المضافة المرتفعة مما مكن سنغافورة من الإبقاء على قدرتها التنافسية بالرغم من ارتفاع الأجور وغيرها من التكاليف. ولقد استطاعت مراجعة خطط التنمية بانتظام وتعديلها بشكل دوري لتتناسب مع الوقائع ودلائل المستقبل.ولعبت الحكومة دوراً رائداً حيث بدأت صناعات جديدة مثل صناعة الحديد والفولاذ والصناعات الخدمية مثل شركة النقل البحري وشركة النقل الجوي وشركات أخرى كبرى في مجالات متعددة كالتأمين والنفط. ومن أهم الجوانب التي ركز عليها لي كوان يو الثقة بالمسؤولين والموظفين الشباب الذين تمتعوا بالاستقامة والأمانة والذكاء والطاقة والدافع إلى القدرة على التنفيذ وإن افتقدوا الفطنة التجارية. وبذلك تمثل أهم مفاتيح النجاح من توعية الأشخاص المسؤولين. ويقول لي كوان يو (إن توجب علي اختيار كلمة واحدة لتفسير سبب النجاح الذي حققته سنغافورة فسوف تكون "الثقة") فهي التي جعلت المستثمرين الأجانب يفضلون سنغافورة لإنشاء مصانعهم ومنشآتهم ومصافي نفطهم. وبحلول التسعينات أصبحت ثالث أكبر مركز لتكرير النفط، في العالم هيوستون ونوتردام وثالث أكبر مركز لتجارة النفط بعد نيويورك ولندن وأصبحت منتجاً رئيساً للبتروكماويات. إنشاء مركز مالي: بدأت السوق المالية متواضعة بسوق الدولار الآسيوي البحري. كانت سوقاً مصرفياً ثم تولت تقديم القروض وإصدار صكوك التأمين وإدارة الاعتمادات المالية متى تجاوز حجمها 500 مليار دولار عام 1997م. والتزمت المؤسسات المالية الدولية من خلال إلغاء الضريبة على فوائد الدخل الذي يكسبه المودعون غير المقيمين. واتبعت سياسة مالية واضحة حيث أصرت على عدم قبول إلا المؤسسات المالية المشهورة، ومن ثم رفضت منح ترخيص لبنك الاعتماد والتجارة الدولي عام 1973 وعام 1980 لضعف موقعه العالمي. وشهد مركز سنغافورة المالي تطوراً تمثل في إنشاء بورصة سنغافورة الدولية عام 1984 على غرار بورصة شيكاغو التجارية وأبرمت عقوداً آجلة بمعدلات فائدة مرتفعة. واعتبر هذا المركز المالي فعالاً في التقيد بالأنظمة والقوانين مقارنة بهونج كونج، فقد كتب النقاد يقولون: "في هونج كونج يسمح بما لا يعتبر ممنوعاً بشكل واضح ومحدد، أما في سنغافورة فإن الممنوع هو الذي لا يسمح به بشكل واضح ومحدد". لكن هؤلاء نسوا أن هونج كونج تتمتع بدعم العلم البريطاني وبنك إنجلترا وهو ما لا يتوافر لسنغافورة التي ترسخ سمعتها بالاعتماد على النفس. ويقول لي كوان يو: "بعد أن تركت رئاسة الوزراء عام 1990 توافر لي مزيد من الوقت لعقد لقاءات عمل وجلسات مع المصرفيين السنغافوريين، كما حضرت أيضا عدة جلسات في أواسط عام 1994 مع أبرز المديريين السنغافوريين للمؤسسات الأجنبية, الأمر الذي سيوسع صناعة إدارة المؤسسات المالية. بدأت أفكاري حول بيئتنا المالية المنظمة وممارساتنا المصرفية المقيدة بالتغير بعد عام 1992 حين وجه لي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج شولتز وهو مصرفي أمريكي رفيع المستوى دعوة لأكون عضواً في مجلس إدارته حيث اكتسبت رؤى متبصرة تستوعب أعمالهم وأنشطتهم. ثم قررت في عام 1997 كسر القالب العتيق من رفع الحماية عن البنوك المحلية فالبنوك السنغافورية بحاجة لحقنة علاجية من المواهب والكفاءات الأجنبية, إضافة إلى أسلوب مختلف في التفكير. وبعد البحث عن المواهب المناسبة عام 1998 عين بنك "دي بي إس" جون أولدز وهو من كبار المديرين التنفيذيين ليجعل البنك لاعباً آسيوياً رئيسياً. توصلت تدريجياً إلى نتيجة مفادها أن نائب المدير الإداري لمجموعة المؤسسات المصرفية والمالية في السلطة النقدية السنغافورية لم يكن يساير التغيرات الهائلة التي تكتسح الصناعة المصرفية في مختلف أرجاء العالم. ونظراً لأنني لم أكن راغباً في إصلاح السلطة النقدية بنفسي طلبت في أوائل عام 1997 من لانغ أداء المهمة بعد الحصول على إذن من رئيس الوزراء. حررت السلطة النقدية السنغافورية عملية الدخول إلى القطاع المصرفي المحلي عبر السماح للبنوك الأجنبية المؤهلة بافتتاح المزيد من الفروع وإدخال أجهزة الصراف الآلي، حيث أحدث تغييرات أثرت في مجالات القطاع المالي كافة. هذه الخطوات الكافية الوافية التي اتخذتها السلطة النقدية السنغافورية للتعامل مع الأزمة رسخت سنغافورة موقعها كمركز مالي مهم. كسب تأييد النقابات يقول مؤلف الكتاب بدأت حياتي السياسية مكافحاً في سبيل النقابات العالمية بوصفي مستشارها القانوني والمفاوض الرسمي باسمها نظراً إلى أن سيطرة الشيوعيين على نقاباتنا تحتم علينا أن نعاني من اضطرابات لا نهاية لها، بين تموز (يوليو) 1961 وأيلول (سبتمبر) 1962 حدث 153 إضراباً، وهو رقم قياسي بالنسبة لسنغافورة. في عام 1969 لم نواجه أي إضراب أو توقف عن العمل وذلك للمرة الأولى منذ ما قبل الحرب وذلك بعد أن تعرض عمالنا للاستغلال على نطاق واسع. لكن عواقب المطالب والإضرابات كانت وخيمة وفاقمت من مشكلة البطالة لدينا لدرجة أنني ندمت على ما قمت به. هز الانفصال عن ماليزيا النقابات والعمال وأرعبها احتمال الانسحاب البريطاني إلى درجة القبول بمقاربة الواقعية. فقد عرفت أننا نواجه حالة طارئة يمكن أن تهدد وجودنا كدولة مستقلة. حصلت مواجهة واحدة مع زعيم نقابي وفي إنذار بعثه إلى الحكومة في 18 من تشرين الأول (أكتوبر) 1966 دعا إلى تسوية كافة المظالم والشكاوى والمشاكل العالقة نتيجة عدم تنفيذ الاتفاق الجماعي الذي جرى التوصل إليه عام 1961 حسب زعمه. دعا سوبياه إلى إضراب اتحاد نقابات العمال الملاويين العام من كانون الأول (ديسمبر) قبيل احتفالات رأس السنة الجديدة، ونقلت الخلاف إلى محكمة التحكيم الصناعي مما جعل أي إضراب من قبل العمال أمرا غير قانوني. وكان إعلان بريطانيا في كانون الثاني (يناير) 1968 عن عزمها سحب قواتها العسكرية قد فاقم من قلق ومخاوف الناس وانتهز لي كوان يو الفرصة لإجراء إصلاحات راديكالية للتخلص من الممارسات النقابية التي اغتصبت حقوق أرباب العمل، وبعد فوزه في انتخابات نيسان (أبريل) 1968 صادق البرلمان على قانون الاستخدام وقانون العلاقات الصناعية المعدل في السنة ذاتها. وبخلال سنة 1969, جرى تشييد 52 مصنعا وتوافرت 17 ألف فرصة عمل جديدة. وفي عام 1970, أضافت الاستثمارات الجديدة 20 ألف وظيفة أخرى وازدادت الإيرادات والمداخيل. وفي عام 1972 أنشأنا مجلس الأجور الوطني الذي حصل على إجماع عريض حول التوصيات المتعلقة بزيادة الأجور. ومن عام 1969 عاد ديفان ناير إلى سنغافورة من كوالالمبور لرئاسة المجلس الوطني لنقابات العمال مرة أخرى وقد علم زعماء النقابيين مبادئ الاقتصاد الأساسية وساعد على إنجاح مهمة مجلس الأجور الوطني الثلاثي الأطراف. ثم أسس المجلس جمعية استهلاكية عام 1973 باسم "إن. تي. يو. سي. ويلكوم" لإدارة المتاجر والمخازن ومحلات السوبرماركت. وبقي لي كوان طيلة سنين عديدة يستحث المجلس على إنشاء كلية عمالية وفي عام 1990 وبمساعدة مدير كلية رسكين أسس تينج تشيونج معهد الدراسات العالمية لتدريس العلاقات بين الإدارة والعامل وتنمية المهارات القيادية. ولكنه وجد في التسعينيات أن نقابات الشركات لم تعمل بصورة جيدة كحالها في اليابان. لذلك كان يجب حدوث تغييرات في الحركة النقابية في سنغافورة دون حدوث الكثير من الإضرابات والنزاعات بين العمال والإدارات. وقد ساهم هذا المجلس في تخفيض معدلات البطالة من 14 في المائة عام 1965 إلى 1.8 في المائة عام 1995, حيث عانت البلاد من نكسة خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 نسبة البطالة ارتفعت إلى 3.2 في المائة عام 1998. وصادقت النقابات والحكومة على جملة من الإجراءات التي استهدفت خفض الأجور وغيرها من النفقات بنسبة 15 في المائة بدءا من كانون الثاني (يناير) 1999. مجتمع العدالة الاجتماعية لا مجتمع الرعاية الاجتماعية أخذت سنغافورة بالاشتراكية منهجا وبحق الجميع في نصيب عادل من الثروة. ولكن قادتها أدركوا فيما بعد أن الباعث الذاتي والمكافآت الفردية ضرورة حيوية للاقتصاد الإنتاجي. وحاولوا إقامة نوع من التوازن عن طريق إعادة توزيع الدخل القومي وكان لا بد من التعامل مع كل حالة بطريقة براغماتية. وكان هاجسهم الشخص يتركز بالدرجة الأولى على إعطاء كل مواطن حصة في الوطن وفي مستقبله. وبعد فوز لي كوان يو بالانتخابات العامة 1963 حين كانت سنغافورة جزءا من ماليزيا أنشأنا الهيئة كسلطة قانونية مختصة ببناء مساكن شعبية رخيصة التكلفة للعمال. وبعد حصول سنغافورة على استقلالها عام 1965 صممت على تحويل ساكن البيت إلى مالكه و إلا افتقدت سنغافورة الاستقرار المطلوب. وقد أنشأت الإدارة الاستعمارية صندوق التوفير المركزي كجزء من برنامج بسيط للادخار التقاعدي يسهم الموظف فيه بـ 5 في المائة من راتبه، يقابله 5 في المائة يدفعها رب العمل ويحصل الموظف على كامل المبلغ حال بلوغه سن الخامسة والخمسين. وبعد تعديل هذا القانون سمح للعمال بالاستفادة من مدخراتهم المتراكمة لدفع القسط النقدي الأول من قيمة السكن 20 في المائة وتغطية قرض الإسكان بأقساط شهرية مريحة لمدة 20 سنة. في العقد التالي على عام 1965 تم بناء الجمعيات السكنية الجديدة في مواقع على أطراف المنطقة المركزية. ونقلنا المزارعين فجأة إلى شقق حديثة في أبنية طابقية مرتفعة مجهزة بجميع المرافق ولكن توجب عليهم الآن دفع فواتير شهرية مقابل هذه الخدمات. ولكن فضل الملاويون البقاء قريبا من الأرض والطبيعة فزرعوا الخضراوات حول أبنية بيوتهم العالية. وقد مثلث الرعاية الصحية مشكلة عويصة أيضا عندما كنت طالبا في بريطانيا عام 1947. بذلت قصارى جهدي لحل مشاكل الميزانية الصحية. في عام 1975 ناقشت مع بعض الزملاء في الحكومة اقتراحي بتخصيص جزء من المساهمة لكل فرد في صندوق التوفير المركزي للمشاركة في دفع فواتير الرعاية الصحية. بعد انتخابات عام 1980 تم تعيين غوه تشوك تونج وزيرا للصحة. عندما نفذ برنامج الادخار الطبي عام 1984 كان كل حساب خاص في صندوق التوفير المركزي قد جمع مبلغا معقولا. كان من الممكن استخدامها في دفع تكاليف العلاج الطبي لأفراد عائلة العضو بشرط خضوعها لحدود الأسعار المفروضة على مختلف الإجراءات الطبية. ورأى لي كوان يو أنه من الأفضل دعم التراث الكونفوشيوسي الذي يعتبر الرجل مسؤولا عن أسرته ورفضنا تقديم الدعم الحكومي للمواد الاستهلاكية, حيث كان بحاجة إلى الوقت لتجميع مبالغ مالية كافية من مدخرات صندوق التوفير المركزي كي يمتلك العديد من المواطنين مساكنهم الخاصة. ولقد نظم هذا الصندوق للعمال نظاماً شاملاً للضمان الاجتماعي الممول ذاتياً. وعلاوة على المدخرات الإجبارية المرتفعة في صندوق التوفير المركزي والتي بلغت 40 في المائة من الأجور لجأ الكثيرون للادخار الإضافي الطوعي في مصرف صندوق توفير البريد. ومنذ الستينيات توفر لدى الحكومة في كل ميزانية فائض سنوي. واستطاعت بشكل مطرد تخفيض ضريبة الدخل على الأفراد والشركات فتم تخفيض نسبة ضريبة الدخل الحدية من 55 في المائة عام 1965 إلى 28 في المائة عام 1996 وخفضت نسبة ضريبة دخل الشركات من 40 في المائة إلى 26 في المائة في الحقبة نفسها. والواقع أنه ما كان لعملية التنظيم والتعديل والضبط والتكييف الهادفة إلى تسريع عملية الاقتصاد أن تتم لو احتفظ الشيوعيون بتأثيرهم الضار، لكن زعماءهم لحسن الحظ تخبطوا وتعثروا بعد حصول سنغافورة على استقلالها عام 1965 فانتهز الفرصة وأعاد صياغة سياسة سنغافورة. الشيوعيون يدمرون ذاتهم كان الشيوعيون في المعتقل مرتبكين ومنقسمين على أنفسهم نتيجة ما أصابهم من نكسات أولها عام 1962 حين خسروا الاستفتاء حول الوحدة الاندماجية مع ماليزيا وبعد الانفصال عن ماليزيا شجب الدكتور لي سيوتشوه زعيم الجبهة الاشتراكية استقلال سنغافورة المزيف، أمر لي سيوتشوه زمرة أنصاره الاشتراكيين بالخروج - في مظاهرات لكن رجال الشرطة استطاعوا تفريق جماعاتهم وتقديم المتظاهرين إلى القضاء. وبدلاً من كسب تأييد الرأي العام أدت هذه التكتيكات إلى شق صفوف الجبهة الاشتراكية وتدميرها، وفي الانتخابات الفرعية التي أجريت في بوكيت ميراه في كانون الثاني (يناير) 1966, فاز حزب العمل الشعبي بأغلبية ساحقة بلغت سبعة آلاف من أصل أحد عشر ألف صوت ولم يتجاوز تعداد أوراق الاقتراع البيضاء التي طالبت الجبهة الاشتراكية أنصارها باستخدامها 400 صوت. وفي كانون الثاني (يناير) 1968 بعد إعلان البريطانيين انسحابهم دعوت إلى انتخابات عامة قاطعتها الجبهة الاشتراكية كان ذلك بمثابة خطأ كبير أبعدها عن البرلمان إلى الأبد. ولهذا قامت الحكومة بصياغة وتشكيل استراتيجية سياسية خلال فترة النضال الذي خضناه كحزب معارضة بين عامي 1954 و1959 وحين أصبحنا في الحكم بين عامي 1959 و1965 كان ليم تشين سيونج واحداً من الذين لم تطردهم السلطات البريطانية وكانت محاولة انتحاره بمثابة الثمن الذي دفعه حين خذلته الشيوعية. خسر الشيوعيون معركة سنغافورة وماليزيا قبل انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفياتي. التجربة المريرة التي عاشتها سنغافورة نتيجة التخريب الشيوعي أدت بإدارة الأمن الداخلي إلى التزام الحيطة والحذر تجاه أية محاولة خفية لاختراق المنظمات والهيئات خاصة نقابات العمال والجمعيات التقليدية. طالبنا كل من يدخل ساحة المعترك السياسي أن يلجها بطرقها الشرعية أي عن طريق تشكيل حزب سياسي يجبر أعضاءه على الظهور العلني ويجعل مراقبته أكثر سهولة. وفي الحلقة القادمة نواصل عرض الجزء الثاني من هذا الكتاب الذي يحكي تجربة دولة استطاعت أن تنتقل من مصاف الدول النامية إلى مصاف الدول الصناعية بتفكير قادتها وتصميم شعبها وعزمه على الوصول إلى الأهداف والغايات مهما كان الثمن وأيا كانت التضحيات .
إنشرها

أضف تعليق