Author

المدينة الذكية .. التطلعات والمتطلبات

|

قامت وثيقة صادرة عن "الاتحاد الأوروبي EC"، عام 2014، بتعريف مصطلح "مدينة" على أنه تجمع سكاني، لا يقل عدد السكان فيه عن "50 ألف نسمة"؛ ولا تقل كثافته السكانية عن "1500 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد". على أساس هذا التعريف، يمثل عدد سكان المدن، في الوقت الحاضر، نحو "50 في المائة" من سكان العالم. وهذه النسبة في ازدياد مطرد، ومن المتوقع أن تصل إلى "60 في المائة" عام 2030؛ وإلى "67 في المائة" أي "ثلثي سكان العالم" عام 2050.
وللمدن مقارنة بالريف ميزات خاصة، سنطرح ثلاثا من أهمها. ترتبط الميزة الأولى بحقيقة أن المدن تستقطب نشاطات اقتصادية وثقافية ومعرفية تفوق تلك التي يمكن أن تحدث في الريف. وتتعلق الميزة الثانية بحقيقة أخرى هي أن المراكز الرئيسة للإدارات والخدمات المختلفة، الحكومية وغير الحكومية، تقع في المدن وليس في الريف. أما الميزة الثالثة فتنتج عن حقيقة ثالثة هي أن كثافة التجمع السكاني في منطقة محدودة تزيد من الكفاءة التجارية للأعمال والخدمات المختلفة. وتضع هذه الميزات المدن في موقع المسؤولية عن إدارة التنمية وتوجيهها في الدولة، أو في المناطق التي تحيط بها.
وتترافق الميزات سابقة الذكر مع مشاكل تحتاج إلى حلول، وسنطرح في هذا الإطار مشكلتين رئيستين. المشكلة الأولى هي تعرض بيئة المدن للتلوث بما يفوق بكثير التلوث في الريف نتيجة الكثافة السكانية ومتطلباتها. أما المشكلة الثانية فهي ظاهرة الأحياء العشوائية الفقيرة التي يمكن أن تنمو على أطراف المدن، لأسباب مختلفة، وتؤدي إلى مشاكل اجتماعية تحتاج إلى حلول مناسبة.
وطبقا لوثيقة حول "المدن الذكية"، نشرها "المعهد البريطاني للمعايير BSI"، تعاني المدن إضافة إلى ما سبق، مشكلة مهمة أخرى، وترتبط هذه المشكلة بهيكلية حوكمة المدينة وإجراءاتها. وتتلخص هذه المشكلة في أن النشاطات الرئيسة في المدن كالخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والإسكان والنقل والطاقة والبيئة وغيرها، نشاطات غير مترابطة وأقرب إلى أن تكون معزولة بذاتها عن النشاطات الأخرى، رغم أن الجهة المستفيدة واحدة وهي السكان. وعلى هذا الأساس يقترح المعهد وجود هيكلية للحوكمة تزيل هذا العزل لتعطي خدمات متكاملة بصورة أكثر كفاءة وفاعلية. ويماثل هذا الاقتراح ما توصي به الجهة المسؤولة عن الحكومة الإلكترونية في الأمم المتحدة UNDESA، وذلك فيما يتعلق بتكامل الخدمات الإلكترونية الحكومية، على مستوى الدولة.
ونظرا لأهمية المدن وضرورة حسن إدارتها، يشهد العالم اليوم توجها نحو تطوير المدن وتعزيز استدامتها تحت شعار "المدينة الذكية". وقد اهتمت المنظمات الدولية والوطنية المتخصصة بالمعايير بالعمل على وضع المعايير التي تجعل المدينة ذكية. وتضمنت هذه المنظمات كلا من: الاتحاد الدولي للاتصالات ITU؛ ومنظمة المعايير الدولية ISO؛ والمعهد البريطاني للمعايير BSI؛ وغيرها.
يعرف الاتحاد الدولي للاتصالات ITU المدينة الذكية على النحو التالي:
المدينة الذكية المستدامة هي مدينة مبتكرة، تستخدم تقنيات المعلومات والاتصالات، إضافة إلى وسائل تقنية أخرى، من أجل تحسين جودة الحياة، وتطوير كفاءة أعمال المدينة وخدماتها، وتعزيز قدرتها على المنافسة، مع التأكيد على فاعلية استجابتها لمتطلبات الأجيال الحالية والمستقبلية في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وكذلك الثقافية.
وانطلاقا مما ذكرناه في مقال سابق حول الاستدامة، نلاحظ تركيز فكرة المدينة الذكية في هذا التعريف على الاستدامة، حيث يتوافق هذا التعريف مع تعريف الاستدامة في مسألتين مهمتين. الأولى أن المدينة الذكية تهتم ليس فقط بالاستجابة لمتطلبات الأجيال الحالية، بل بالاستجابة لمتطلبات الأجيال المستقبلية أيضا. أما المسألة الثانية فهي أن المدينة الذكية تركز على أعمدة الاستدامة الرئيسة الثلاثة؛ الاقتصاد والمجتمع والبيئة، ويضيف تعريف المدينة الذكية إلى ذلك عمود الثقافة أيضا.
وتقدم المنظمة الدولية للمعايير ISO، في تعريفها للمدن الذكية، صورة أكثر تفصيلا للتقنية والخدمات في المدن الذكية، حيث تورد الآتي:
المدن الذكية هي نموذج جديد ينطبق على الجيل الحديث من تقنيات المعلومات، مثل: إنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، والبيانات الكبيرة، والتكامل الجغرافي للمعلومات، ويمكّن هذا النموذج من التخطيط للمدن وبنائها وإدارتها وتنفيذ خدماتها الذكية. وتفيد المدن الذكية في تحقيق التوافق الزمني في التنمية، والتصنيع، والتنظيم المعلوماتي، والبنية المدنية، وتحديث الزراعة، واستدامة تطوير المدن.
ويعطي المعهد البريطاني للمعايير BSI تعليقين جديرين بالاهتمام في طرح موضوع المدينة الذكية. الأول منهما يقول: المدينة الذكية هي حيث تحقق الأنظمة المادية والرقمية والإنسانية تكاملا فعالا ضمن بيئة تعطي مستقبلا يتمتع فيه مواطنوها بالرفاهية والاستدامة. أما الثاني فيقول "لا يرتبط ذكاء المدينة بالتقنية وإنما يتعلق بمدى جودة استخدامها، ضمن بيئة متكاملة تساعد المدينة على أداء مهماتها بفاعلية أكبر، ويرتبط ذلك بتحقيق تفاعل أفضل مع أصحاب العلاقة، وبالوصول إلى آليات حوكمة أسلم".
ولعل حصيلة هذين التعليقين تبين أن منطلق المدينة الذكية هو رفاهية حياة المواطن واستدامتها. وأن ذلك قابل للتحقيق من خلال مجموعة من الأنظمة المادية والرقمية والإنسانية على أن تكون ضمن بيئة متكاملة. وأن التحقيق الفعلي لذلك على أرض الواقع يرتبط بآليات الحوكمة من ناحية، وبحسن "استخدام الأنظمة" والاستفادة منها من ناحية ثانية. ويرتبط هذا الأمر بسكان المدينة الذكية، فذكاء كل من الأنظمة وبيئة التكامل والحوكمة غير كاف للمدينة الذكية، إذ لا بد من ذكاء الإنسان أيضا.
ليست المدن الذكية هدفا واحدا ثابتا يمكن الوصول إليه، وينتهي السباق، بل هي هدف متجدد يبتعد عنك كلما اقتربت منه. فالتقنية الرقمية وغير الرقمية التي تحتاج إليها المدينة الذكية في تطور مستمر يؤدي إلى تجدد إمكانات أنظمتها والمعطيات التي تقدمها. وكذلك الأمر في أفكار الحوكمة والإدارة وآلياتها، وفي أساليب استخدام الأنظمة والاستفادة منها، وكذلك في متطلبات المستخدم ومعايير الرفاهية المتجددة التي يتطلع إليها. ولا بد في بناء المدن الذكية، والاستجابة لتجدد الإمكانات والمتطلبات المرتبطة بها، من الاهتمام المستمر بأعمدة الاستدامة الثلاثة البيئة والمجتمع والاقتصاد، إضافة إلى الثقافة العمود الرئيس المرتبط بالإنسان الفرد المسؤول عن بناء المدينة الذكية، وتطويرها المستمر، واستخدامها والاستفادة منها على أفضل وجه ممكن.

إنشرها