Author

من أين لي هذا؟ من أين لك أنت.. أيضا؟

|
كثيرا ما نسمع عن أفراد كان مستواهم المادي بسيطا جدا ثم فجأة تغير مستواهم المادي، وأصبحوا من ذوي الثروات الكبيرة، وتغيرت معه حياتهم، ونمط معيشتهم، وعلاقاتهم. ولو تأملنا في الأسباب التي نقلتهم من وضع إلى وضع لم نجد في الظاهر ما يفسر هذا التحول عدا أن هذا الفرد أسندت إليه مسؤولية جديدة، إما في إدارة حكومية، أو شركة، حتى المركز الجديد ربما لا يختلف راتبه إلا القليل عن راتبه السابق، ما يزيد الحيرة بشأن أسباب هذا التحول المفاجئ. في المقابل نجد زميلا آخر، ربما سبقه، وبمدة ليست قصيرة، في اعتلاء منصب يضاهي، إن لم يكن أعلى من منصبه، لكن الزميل ظل مستواه المادي كما هو، ولم يمر بالطفرات المالية السريعة ، والمفاجئة، والفاحشة، التي تشبه الطفرات الجينية المفاجئة، والغريبة التي تصيب بعض الكائنات الحية. في وضع كهذا تزداد الغرابة بشأن الحالتين، إذ من الأهمية الوصول إلى تفسير منطقي، وموضوعي لا يقوم على التخرصات، والأهواء، بهدف معرفة الوضع الحقيقي الذي يكشف خبايا الإدارة، والسلوك البشري، من حيث الأمانة، والنزاهة، والانضباط وفق الأنظمة المعتبرة في الإدارة، أو الشركة التي يعمل فيها كل واحد. قد يكون من التفسيرات للثراء الفاحش أن لديه نشاطا آخر، كعمل إضافي في جهة أخرى، أو ربما لديه نشاط تجاري يدر أرباحا طائلة، أو ربما أنه ورث إرثا كبيرا، وفي هذه الحالة يزول اللبس، ويزول معه الشك، لكن لو استقصينا هذه الأمور المحتملة وتأكدنا من عدم صحتها، فلا بد أن يكون الموضوع محل شك وريبة. الحكومات الحريصة على مواردها المالية تنشئ هيئات مراقبة، ومحاسبة مالية مهمتها التأكد من أن الأموال تصرف من أجل المشاريع، أو الأنشطة التي خصصت لها، إضافة إلى التأكد من أن المال الذي صرف يتناسب مع التكلفة الحقيقية، وليس مبالغا فيه، إضافة إلى التأكد من أن المال يصرف وفق القنوات المحددة، وبالطرق النظامية، إلا أن من البشر من يتجاوز النظام، وبطرق احترافية تمكنه من التكسب من مشاريع الجهة التي يعمل فيها، إما برفع تكلفتها، أو أحيانا بتوريد بعض المستلزمات ورقيا، ليتحول المال المخصص إلى جيب المسؤول. الهيئات الرسمية المعنية مهمتها الوصول إلى إجابة عن سؤال من أين لك هذا؟ لكن من المؤكد أن الوصول إلى الإجابة ليس بالأمر الهين، فالحيل، والحذر، وعمليات التستر التي يمارسها من يسعون للثراء لا يمكن كشفها بسهولة، ولذا نجد كثيرا من الأموال تهدر، وتصرف في غير مواضعها، ما يضيع على الوطن كثيرا من الثروة، ويضر بالتنمية الوطنية، لأن أصحاب النفوس الرديئة لا يقيمون وزنا إلا لمصالحهم، ومكاسبهم الشخصية، والسر في هذا اختلال المنظومة الأخلاقية، وضعف الوازع الديني عند هؤلاء، وفي المقابل نجد الزميل الآخر الذي لم يتعرض لهذه الطفرة المادية السريعة والمفاجئة لديه رقابة ذاتية تجعله يوجه السؤال إلى نفسه قبل أن يوجه له سؤال من أين لك هذا، إذ إنه يسأل هل يحل لي هذا المال؟ وهل يجوز صرف هذا المال بهذه الصورة؟ وهل المبلغ المخصص للمشروع أو النشاط مناسب؟ وهل نحن في حاجة إلى المشروع من الأساس؟ وهل تم تحديد المبلغ بالطرق النظامية، ووفق الأصول المعتبرة؟ هذه التساؤلات تكشف أن الرقابة الداخلية تمنع الفرد من الانسياق وراء رغباته اللامشروعة وتردعه. ترى لماذا اختلاف التصرف بين الزميلين؟! ما من شك أن التربية التي نشأ عليها كل واحد منهما لها دورها في توجيه السلوك وضبطه، والوقوف في وجه ما يعرض للفرد من ميل لاستغلال المنصب، وتحويل الإدارة التي يرأسها، كما لو أنها ملك شخصي يباح لصاحبه التصرف فيه كما يحلو له، إذا ما توافرت التربية الصحيحة التي يتعلم الفرد من خلالها ما يجوز، وما لا يجوز، والنظامي، وغير النظامي، في حين أن التربية التي تفتقد أسس التنشئة السليمة تنتج أفرادا لا يميزون بين الحلال، والحرام، ولا بين السليم، والخطأ، ولذا نجد من يتجرأ على المال العام، الذي لا يحق له بأي حال من الأحوال. أوضاع كهذه سببها أن المحافظ على المال العام يحاسب نفسه، جاعلا من ذاته رقيبا على تصرفاته، وأفعاله من خلال منظومة القيم التي يمتلكها، التي نشأ عليها في البيت، والمدرسة، والمنزل، ومن خلال القدوات الصالحة التي تغرس فيه شعور استشعار المسؤولية، والخوف من الله قبل الخوف من الرقيب. أما من يعبث في المال العام، فافتقاد قيم الأمانة والنزاهة، لسوء تربيته، فقد جعل الرقيب الخارجي هو الأساس، ومتى ما أحس بغيابه، أو تسامحه استغل الفرصة لينهب ما يمكنه نهبه، وينطبق على هؤلاء المثل القائل "ناس تخاف ما تستحي"، لكنه خوف من الناس، وليس من الله.
إنشرها