Author

التأمين على السيارات .. وفتح الباب للمستهترين

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
لم تأتِ أفكار التأمين من أجل حماية المجرم، أو تعزيز فرص الإجرام، لم يبتكر العالم حلول التأمين من أجل منح مساحة أوسع للتخلف، واللامبالاة، إنما أتت لحماية الإنسان مما لا يستطيع أن يتفاداه من مخاطر الحياة. التأمين جاء كحل لمشكلة المخاطر، فالمخاطر التي نواجهها في الحياة تصنف إلى مخاطر يمكن تجنبها ببعض الإجراءات الاحترازية، ومخاطر يمكن تحمل تكاليفها، ومخاطر تفاديها يمكن نقلها للغير. المخاطر التي يمكن تجنبها بالإجراء أو التي يمكن تحملها لا يتم التأمين عليها مطلقا في العادة، لأنه لا معنى لتحمل التكلفة مرتين. إنما المخاطر التي لا يمكن تفاديها وفي الوقت نفسه لا يمكن تحملها هي المخاطر التي نقوم بنقلها للآخرين ومن ذلك التأمين عليها لتتحمل تكلفتها شركات التأمين. لهذا فإن التأمين ليس ضريبة ندفعها في مقابل تهورنا أو في مقابل الاستهتار بأرواحنا أو أرواح الآخرين، بل هو أسلوب للحياة، للتعايش وللتعاون على البر والتقوى، التأمين يعلمنا كيف نكون أكثر حرصا، وأكثر حيطة في مواجهة مخاطر الحياة. وكمثال على هذه الأفكار سأناقش التأمين على السيارات الذي تحوّل في المملكة إلى ضريبة يدفعها الحريص والملتزم في مقابل ما يقوم به البعض من الاستهتار بالأرواح والممتلكات، لم نفهم معنى التأمين على حقيقته فتورطنا في شركات أسهمت على مدى سنوات في إشاعة الفوضى وفي كل مرة ترفع أسعار التأمين لتحملنا تكاليف استهتار الشركة نفسها واستهتار غيرها بنا. التأمين كما قلت أسلوب للتعايش مع المخاطر والحياة المتحضرة، وليس أسلوبا للعبث. فالمخاطر التي نتعرض لها في الطريق وأثناء قيادة السيارة يمكن تفادي كثير منها من خلال الالتزام بإجراءات السلامة وتعليمات المرور، وعلينا أن ندفع تكلفة ذلك الالتزام بشراء سيارات أكثر أمانا، وعدم السماح لأي شخص بقيادة السيارة ما لم تكن لديه رخصة للقيادة، ومن يقوم بمثل هذه الإجراءات خاصة السيارات الأكثر أمانا يجب ألا يتحمل تكلفة التأمين المرتفعة، فهو قد دفع في مقابل الحماية منها، ويكفي أحدنا أن يلتزم بالقواعد حتى يسلم من كثير من المخاطر الأخرى على الطريق، وحتى إذا حدثت بعض المخاطر العادية كحوادث التصادم البسيطة والتأثير فإنه يمكن لمالك السيارة تحمل تكلفة الإصلاح، وفي المقابل هناك مخاطر يتعرض لها البعض بسبب الاستهتار بالأرواح والممتلكات وعدم الالتزام بقواعد السلامة سواء في السيارة أو على الطريق كأن يقتني سيارات متهالكة وغير مرخصة، فالحوادث التي تنشأ من خلال هذا الإهمال يجب ألا تغطيها شركات التأمين، لأننا إذا قبلنا بتغطيتها تحت بند الطرف الثالث فإننا نقدم هامشا واسعا للقتل الحر والجريمة التي يمكن تحمل نتائجها بورقة تأمين، وهذا ليس عملا متحضرا بل هو همجية مطلقة، ولم يتم تطوير التأمين لمثل هذه التصرفات ويجب ألا تقبل شركات التأمين الدفع في مقابلها، التأمين الذي يجب علينا الدفع في مقابله هو لتغطيته مخاطر خارج سيطرتنا تماما، مثل التعرض لحوادث كبيرة بسبب أمور خارجة عن إرادتنا والأمثلة أكثر من أن تحصر، كأن يوجد شخص على الطريق فجأة ولا يمكن تفاديه إلا بحدوث حادث آخر، مثل هذه الحوادث هي التي نؤمن ضدها فمهما بلغ حرص السائق وخبرته وأداء سيارته فقد لا يسلم من التعرض لها. شركات التأمين من خلال عدم تطبيق لوائح صارمة في مقابل التعويضات تفتح الباب على مصراعيه للمستهترين، وهي تواجه حجم التعويضات عن تصرفاتهم من خلال رفع أسعار بوليصة التأمين على الجميع حتى على أولئك الملتزمين، وإذا تأملت في الموضوع فإن الذين يلتزمون بقواعد السلامة وقواعد القيادة الآمنة هم الذين يدفعون فاتورة الذين يخالفونها وبتعمد، ولتوضيح ذلك تأمل معي حال عدة مئات من الأشخاص في قرية صغيرة يدفعون فاتورة ضخمة على تأمين سياراتهم، ويدفعون تكاليف إضافية لوسائل السلامة ويحرصون كل الحرص على قواعد الطريق والقيادة الآمنة، ونادرا ما يتعرضون لمخالفة سرعة، ولم يتعرض أحدهم أبدا لمخالفة قطع إشارة، فتجد السنة كاملة تمر دون تعرضهم لحادث وتنتهي مدة التأمين دون الحاجة إليها لأنهم يتصرفون بحرص ويملكون سيارات صالحة للقيادة، بينما هناك شخص واحد فقط في القرية مستهتر بكل القواعد يسلم سيارة متهالكة لمراهق يقودها بكل صفاقة، يتعرض لحادث مؤلم يتسبب في وفاة أشخاص وتلفيات كبيرة تقوم شركة التأمين بدفع جميع المستحقات عنه، والآن تأمل معي كم دفع المئات من القرية ولم يحصلوا على شيء، بينما شخص واحد مهمل دفع قليلا جدا واستفاد من كل حصصهم في التأمين، قارن معي كيف أن مئات الأشخاص تحملوا دفع فاتورة استهتار شخص واحد دفع مبالغ زهيدة في مقابل تمتعه بالاستهتار والتهور، فمن تحمل الفاتورة فعلا؟ وهل هذا هو التأمين الذي ننشده؟ وفي نهاية العام تقيم شركة التأمين ميزانيتها وتكتشف أن المستهترين قد استغلوا الوضع ودفعت في مقابل تعويضاتهم كل دخل الشركة، وبدلا من ضبط طريقة التعويض وإجبار المستهتر على تحمل فاتورة استهتاره، يتم - بدلا عن ذلك - رفع الأسعار على الذين هم ملتزمون وحريصون على النظام، فهل هذا هو التطور الذي ننشده والتحضر الذي نبتغيه؟ التأمين كما قلت أسلوب للحياة يجبرنا على الالتزام بقواعد السلامة، وإذا كنا نريد من مجتمع ما أن يتحمل معنا الظروف القاسية، فلا بد أن نثبت لهذا المجتمع أننا نستحق منه العون. إذا تم وضع أسعار معقولة للتأمين في مقابل شروط قاسية لدفع التعويض، فإن أحدنا سيعرف أن المخاطر التي يمكنه تجنبها من خلال الالتزام بالقواعد لن يدفع في مقابلها تأمينا وإذا اقتنى سيارة عالية السلامة أو اهتم بسيارته وصيانتها فلن يدفع كثيرا في التأمين، لكنه إذا أخل بها وتعرض للحادث فعليه وحده تحمل تكاليفها، التأمين ليس ضمانا اجتماعيا، التأمين عمل جماعي تعاوني للحد من المخاطر الصعبة، إذا تحلت شركات التأمين بهذا المفهوم فإن النتائج ستكون واسعة التأثير، فالجميع يريد تأمينا رخيصا وفي الوقت نفسه مستداما وأيضا متوافرا وقت الحاجة إليه، لكن أن يكون التأمين مرتفعا جدا لأنه يتم تحميل الفاتورة بقيمة الاستهتار بالقواعد فإننا نكافئ المستهترين فقط.
إنشرها