Author

ترشيد الإنفاق بين كفاءة الموارد البشرية وأداء المنشآت الحكومية

|
مختص في التمويل والتنظيم وأكاديمي
في فترة الوفرة المالية، لم يكن للموارد البشرية المؤهلة دور كبير في إدارة أعمال المنشآت الحكومية بسبب أن الوفرة المالية كانت كفيلة بحل كل المشكلات خصوصا أن الإنفاق لم يكن مرتبطا بكفاءة الأداء. فقاعدة العمل كانت مبنية على أن 70 في المائة إلى 80 في المائة من المشكلات الإدارية يمكن حلها بالمال دون الحاجة إلى الكفاءة البشرية المؤهلة وإن تسبب هذا الإجراء في هدر مالي كبير يمكن مشاهدة أثره بالمبالغة في العقود والمشاريع وارتفاع التكلفة التشغيلية لبعض الجهات الحكومية بخلاف رحلات الترفيه بدعوى التدريب وخلافه. الطامة الكبرى أن بعض المديرين يتعمد تعيين محدودي الخبرة بدعوى أن التأهيل الحقيقي يعتمد على قدرة الموظف على تنفيذ ما يطلب منه دون تردد بمعنى "يسمع الكلام وينفذ أكثر مما يفكر". هذا النوع من المديرين لا يعيّن الكفاءات البشرية من أهل الخبرة خشية عدم تنفيذهم ما يحقق أهدافه الشخصية التي ليست بالضرورة أهداف المنشأة التي يعمل فيها على قاعدة "ما لي ولوجع الراس". هذه النظرة تختلف كليا عن نظرة الشركات الرائدة. فمثلا لو كان ستيفن جوبز مؤسس شركة أبل حيا لأصيب بانهيار عصبي لأن من أشهر أقواله عن تعيين الكفاءات البشرية، إنه من غير المنطقي أن نعيّن الأشخاص الأذكياء من أجل أن نقول لهم ماذا نعمل، وإنما نعيّن الأشخاص الأذكياء من أجل أن يخبرونا بما يجب علينا عمله. لذا فأنا على قناعة بأن أحد أسباب شح القيادات لدينا أننا نحاربها فضلا عن أن نوفّر لها البيئة المناسبة لبروزها. المشكلة التي قد لا يعيها بعض المسؤولين الحكوميين القيمة الحقيقية للخبرة الإدارية في تطوير الأعمال. صناعة القرارات وفقا لأولويات المنشآت تتطلب كفاءة بشرية ذات خبرة علمية تمكنها من تحديد أولوياتها خصوصا أولويات الإنفاق بصورة سليمة. الخبرة تختصر الوقت والجهد وتحد من التكلفة المباشرة وغير المباشرة بصورة كبيرة لأنه من الطبيعي أن يتخبط محدودو الخبرة بعض الوقت قبل أن يتخذوا القرارات الصحيحة وتنضج خبرتهم. كما أن أهل الخبرة في الأغلب يعرفون أهل مهنتهم جيدا ما يسرع التنسيق والاستشارة وتقليل التكاليف المباشرة وغير المباشرة للمنشآت التي ينتمون إليها. محدود الخبرة يدرك أن الأمن الوظيفي والخيارات المتاحة له محدودة، لذا نجده يضطر لتقبل القرارات المملاة عليه دون نقاش. في الجانب الآخر نجد أن أصحاب الخبرات الطويلة لديهم فرص وظيفية أعلى وأكبر ما يجعلهم لا يتقبلون القرارات غير المهنية بالقدر نفسه. ولعل المثال التالي يوضح بعض جوانب اختلاف المواقف بين محدودي الخبرة وأصحاب الخبرة الطويلة. فمثلا لو واجهك وأنت على الطريق الدائري ـــ مثلا ـــ اختناق مرور بسبب حادث تعطلت بسببه حركة المرور ولمدة طويلة فلو كنت من أهل المدينة نفسها أو تعرف طرقها البديلة فإنك ستتجنب هذه الاختناقات عبر السير في الطرق الفرعية. لكن لو واجهتك هذه الاختناقات وأنت في مدينة لا تعرف فيها إلا طريقا واحدا، فلا شك أنك ستضطر للانتظار لحين فك الاختناقات المرورية لأن الخيارات المتاحة محدودة لديك. هذا المثال يعكس الفرق بين الكفاءات المميزة وبين الكفاءات غير المميزة من حيث تعدد الخيارات عندما تكون بيئة العمل طاردة للكفاءات. لذا يبقى السؤال أو التحدي الأكبر الذي يواجه صانع القرار يتعلق بكيفية المحافظة على الكفاءات المميزة، حيث لا تضطر لسلوك مسارات فرعية. هذه المسارات الفرعية ليست بالضرورة الانتقال البدني من مكان العمل إلى عمل آخر ولكنها الانتقال الفكري والعلمي وهو الأخطر والأشد. إن تعدد الخيارات لدى الكفاءات البشرية يصعب على صانع القرار إمكانية المحافظة عليها أو على أقل تقدير جعل أهدافها وأهداف المسؤول الأول للمنشأة مشتركة. الخبرة تعني أنك استثمرت في موارد بشرية تعلمت من أخطاء الماضي ما يزيد إمكانية اتخاذها القرارات الصائبة مستقبلا. كما أن الخبرة تعني أن الأشخاص ذوي الخبرة أخذوا عديدا من الدورات والورش العلمية اللازمة للتأهيل لذا لا يتطلب الأمر استثمارا إضافيا ومزيدا من الصرف على دورات تأهيلية أو تعليمية. المشكلة التي قد تواجه الاستثمار فيمن هم محدودو الخبرة أن قلة الخبرة تؤدي في كثير من الأحيان إلى التخبط في القرارات فترة من الزمن إما لقلة فهمهم الواقع الذي يتطلب في كثير من الأحيان بعض الوقت ما يؤخر تقدم المنشأة لبعض الوقت. لذا ينطبق على آلية عمل المنشأة التي يديرها الأشخاص محدودو الخبرة المتحمسون للعمل أنها منشآت تتميز بغزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع. فتجد أن الناس في تلك المنشآت مشغولون بأعمال كثيرة لكن انعكاس تلك الأعمال على الأهداف الحقيقية لمنشآتهم محدود جدا لأن الإنتاجية في نظرهم جعل الموظفين مشغولين بأعمال دون قياس أثر تلك الأعمال في كفاءة أداء المنشأة بشكل عام أو أهداف منشآتهم أو تطورها في المنظور القريب أو البعيد. الخبرة التي أعنيها في هذا المقال ليست التي تعني مزاولة العمل نفسه لمدة 20 سنة لأنها خبرة واحدة ومكررة 20 مرة وإنما تعني العمل في ظروف وأجواء ومعطيات مختلفة ولفترات طويلة. فاستثمار الميزانيات وفقا لأولويات المنشأة تحد لم يستطع كثير من الجهات الحكومية تجاوزه بسبب أن القائمين عليها لديهم خبرة واحدة لكنها مكررة 20 مرة. وفي ظل محدودية الإنفاق الحكومي وترشيد الإنفاق ستكون الفترة المقبلة ساحة لظهور الاختلافات بين المنشآت الحكومية التي لديها كفاءات بشرية مؤهلة وبين المنشآت التي ما زالت في مرحلة الصدمة ولم تستثمر في الكفاءات المؤهلة لأنها تعتقد أن المال كفيل بحل كل مشكلاتها.
إنشرها