Author

الحقائق عندما تصل متأخرة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"دور بريطانيا الأكثر فائدة، هو في مكان ما بين النحلة والديناصور " هارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا الراحل عناوين كثيرة سيطرت على المشهد السياسي والاقتصادي البريطاني والأوروبي في الأيام القليلة الماضية، تتأرجح بين فاتورة الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، والاستفتاء المحتمل فيما يختص ببقاء اسكتلندا ضمن المملكة المتحدة. هذا الاستفتاء على وجه الخصوص، فتح ملفا اعتقدت بريطانيا كلها أنه تم إغلاقه إن لم يكن إلى الأبد، فإلى قرن من الزمن على الأقل. عناوين وتفاصيل مخيفة، ليس فقط لأولئك الذين أيدوا البقاء البريطاني في الاتحاد الأوروبي، بل أيضا لشريحة من الذين صوتوا لمصلحة الانفصال. والسبب أن الحقائق التي فشلت حكومة ديفيد كاميرون السابقة في عرضها بصورة جلية للرأي العام، قبل قرار الانسحاب، باتت أكثر وضوحا الآن. وكلما اقترب موعد تفعيل المادة 50 من المعاهدة الأوروبية، برزت بشاعة الحقائق على جميع الشرائح. يؤكد رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك ساخرا من أولئك الذين روجوا لوهم "أن البريطانيين سيأخذون الكعكة وسيأكلونها بعد الانفصال"، بأنهم لن يجدوا الكعكة أساسا على الطاولة وبالتالي لن يعثروا على ما يأكلونه. لماذا؟ لأن بريطانيا ستواجه خروجا "صعبا وضارا"، وفق المسؤول الأوروبي. ولا يحتاج الأمر إلى مسؤول بهذا المستوى لمعرفة طبيعة الخروج الذي سيبدأ التفاوض عليه في آذار (مارس) المقبل. لأن المسألة بقدر ما هي خطيرة من حيث النتائج، بسيطة من جهة الطروحات. لا معاملة خاصة لبريطانيا بعد الخروج، والأهم لا يمكن أن يتفاوض الاتحاد الأوروبي حول البند الأكثر محورية ضمن معاهدته الشاملة، وهو حركة تنقل الأفراد والبضائع والمال ضمن نطاق السوق الأوروبية. بينما يكمن السبب الرئيس لانفصال بريطانيا في تقييد حركة التنقل، ولا سيما للأفراد. تصادم كبير، لن تكون (على ما يبدو) له فرصة لحلول وسط بين المفاوضين البريطانيين والأوروبيين، بصرف النظر عن "الهالة" التي لا يزال يحتفظ البعض بها للمفاوض البريطاني. حقائق الأمس تتوقف عن حدود استحقاقات اليوم وغدا. وأوهام ما قبل استفتاء الانفصال، سرعان ما تحولت إلى فقاعات مدوية. وعندما ترغب بأن الحالة "الواحد للكل والكل للواحد"، يجب عليك أولا وأخيرا أن تكون ضمن الكل، لا على هامشهم، ولا في "مقصورة" خاصة. عليك أن تكون في "المدرجات" وفي الميدان في آن واحد. دون أن ننسى، أن المملكة المتحدة لم تكن هشة مثلما هي في الوقت الراهن. لماذا أيضا؟ لأن أوروبا نفسها ستكون سببا مباشرا في تضعضع الجسم البريطاني، وربما تفككه بأسرع من المتوقع. الحقائق مخيفة حقا. بين هجرة كبيرة محتملة للمؤسسات والمصارف والأموال (باتت مؤكدة عند بعض المؤسسات الكبرى)، وبين فواتير هائلة القيمة ستدفعها بريطانيا من ماليتها ومن سمعتها أيضا. ووفق حسابات الاتحاد الأوروبي ستكون هناك حاجة إلى تسوية مدفوعات بأكثر من 300 مليار يورو من الالتزامات المشتركة في تصفية حسابات الانفصال. ناهيك عن انكماش الاقتصاد البريطاني، وانحسار "نعمة" تراجع الجنيه الاسترليني لتتحول إلى أزمة طالت السلع في المتاجر الغذائية، فضلا عن ارتفاع تكاليف الإنتاج التي بدأت الشركات تطلق أصواتها الغاضبة بسببها. لم يجد وزير المالية الفرنسي ميشيل سابان حرجا، بقوله علنا (وفي هذه المرحلة) "إنه لا مفر من أن تنقل مصارف أمريكية كبرى أنشطتها من لندن في السنوات القادمة بعد قرار بريطانيا المغادرة". وبالفعل أكد عدد كبير من رؤساء المصارف الأمريكية، أنهم لن يستطيعوا الاستمرار في لندن، مع فقدانهم حرية الدخول إلى السوق الأوروبية. الصورة قاتمة جدا، بالنسبة لبريطانيا التي يعرفها العالم. وهذا ما يفسر "تقاعس" رئيسة الوزراء تيريزا ماي في بدء مفاوضات الانفصال متحججة بمبررات تبدو أحيانا صادمة، كتلك الخاصة "بعدم وجود مفاوضين أكفاء، والتعاقد مع مختصين في هذا المجال حتى من خارج بريطانيا"! في الواقع تحتاج ماي إلى أطول فترة ممكنة لإعداد الساحة البريطانية لهذا الانفصال الخطير. في الوقت الذي تدرج فيه صوت رئيسة الحكومة المحلية في اسكتلندا نيكولا ستارجن من منخفض جدا (بعد ساعات من استفتاء خروج بريطانيا)، إلى مرتفع جدا جدا، حول وضعية الإقليم ضمن المملكة المتحدة، بلغت حدة صوتها أخيرا أن أعلنت رسميا، أنها واثقة من الاستقلال. بالطبع مثل هذا الاستقلال لن يشكل صدمة اقتصادية لبريطانيا، بل "مصيبة" وطنية إن جاز التعبير. تبين في النهاية أن الانفصال عن أوروبا يشجع الاستقلال عن الذات، ويعطيه مبررات منطقية وقانونية بصرف النظر عن المآرب القومية الفاضحة. وتأكد مجددا (من دون عناء الاكتشاف والتحليل) أن معسكر الانفصال في بريطانيا لم يكن بارعا لإقناع مليون بريطاني إضافي بالتصويت لمصلحته من أجل أغلبية بسيطة، بل كانت النخب السياسية التي تمسكت بالبقاء وروجت له، ومعها أحزابها وتياراتها المختلفة.. فاشلة.
إنشرها