Author

الفقر المستدام

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"المأساة الحقيقية بالنسبة للفقير أنه فقير في الطموحات" آدم سميث - فيلسوف واقتصادي اسكتلندي هناك صعوبة في تقبل ما قاله آدم سميث عن الفقير في توصيف حاله. فليس كل فقير خاليا من الطموحات، وثبت بالتجربة أن فقراء تقدموا إلى مستوى يمكنهم من أن "يوزعوا" الطموحات، ليس نظريا فقط بل عمليا أيضا. يضاف إلى ذلك، أن أولئك الذين أصيبوا بوباء الفقر، لم يأتوا بهذا الوباء بالطبع، بل فرض عليهم بأشكال وأدوات مختلفة، من بينها الفساد والسرقة والاستغلال. ماذا حدث؟ حدثت الفوارق الاقتصادية المعيشية ضمن الأمة الواحدة وبين الأمم المختلفة. وهذه الفوارق باتت مستدامة على مساحات واسعة من هذا العالم، بل إن بعضها دخل مرحلة الاستعصاء الكامل. فهل يتحمل الفقير الذي ظهر نتيجة هذه الفوارق ذنب فقره؟! وهل يمكننا التعميم في توصيف سميث؟ الجواب بالطبع هو النفي القاطع، لأن الأرقام والحقائق تتصادم مع هذه النتيجة. يقول ماركو ريبو السيناتور الأمريكي الكوبي الأصل "الطريقة المثلى في إدارة الاقتصاد، ليست في جعل الأغنياء فقراء، بل بتحويل الفقراء إلى أغنياء". وهذا السيناتور يبدو أكثر واقعية من آدم سميث المعروف بأنه صاحب النظرية الاقتصادية الواقعية. والإدارة المقصودة هنا تركز على تنمية واسعة بأدوات أكثر عدلا، وبمشاركة جميع شرائح المجتمع. إنها ليست نظرية، ولكنها أداة واضحة لا "فذلكة" فيها. وليس صحيحا أيضا النتيجة التي توصل إليها قبل الميلاد الروائي والمسرحي الإغريقي يوربيدس بأن "المعدة المليئة تزيل أي فروقات بين الغني والفقير". المسألة هنا ترتبط بصورة مباشرة بمستوى معيشي عادل ومستدام ورخاء اقتصادي معقول، وليس بوجبة طعام يمكن الحصول عليها على أي حال. في تقريره الأخير حول الفقر، أفاد البنك الدولي بأن الفقر المدقع يتراجع (وهذا خبر سار جدا)، لكنه أكد في الوقت نفسه أن الحملة من أجل القضاء على هذا الفقر بحلول عام 2030 تواجه تهديدا بسبب تزايد الفوارق الاقتصادية. وأظهرت إحصاءات البنك نفسه، أن ما مجمله 767 مليون شخص لا يزالون يعيشون مع أقل من 1.90 دولار في اليوم في عام 2013، نصفهم تقريبا في إفريقيا جنوب الصحراء. مع ضرورة التأكيد على أن ما يسمى "الفقر المدقع" تراجع بمعدل 12 في المائة عالميا، رغم تباطؤ النمو. وكما هو واضح من خلال تقديرات المؤسسات الاقتصادية الدولية، أن الاقتصاد العالمي سيتباطأ بصورة مقلقة، ما دفعها إلى تخفيض توقعاتها له، في الأعوام المتبقية من العقد الجاري. المصيبة هنا لا تكمن في نمو منخفض أو متباطئ، بل في أن الأكثر فقرا حول العالم لا يستفيدون عمليا من مستويات النمو الراهنة، وهذا ما أدى إلى الفوارق الاقتصادية التي يحذر منها البنك الدولي. ويكفي استعراض هذه النتيجة التي تم التوصل إليها، وهي أنه بين عامي 2008 و2013، سجلت عائدات 60 في المائة من الأكثر ثراء ارتفاعا أسرع من الـ40 في المائة الأكثر فقرا في نصف الدول الـ84 التي يشملها تقرير البنك الدولي، الذي يرى، أنه لا بد من أن تقوم البلدان الأكثر تأثرا، بالاستثمار في القطاع المخصص للأطفال الصغار، وتأمين ضمان صحي عالمي وغيرها من الإجراءات. إنها وصفة سليمة ومهمة، لكن إلى أي مدى يمكن أن يتم تنفيذها، دون أن تكون هناك وسائل دعم دولية حقيقية؟ حاليا هناك ما يزيد على 385 مليون طفل حول العالم يعيشون في فقر مدقع. وما يقدر بـ19.5 في المائة من الأطفال في الدول النامية، عاشوا في منازل يصل متوسط دخلها 1.90 دولار فقط للشخص في اليوم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تترك الأمور للحكومات في هذه البلدان، خصوصا أن معظمها تعتمد الفساد استراتيجية! دون أن تفكر في أي جهة يمكن أن تقف في وجهها. من المستحيل ترك قضايا التنمية بين أيدي هذه الحكومات التي بإمكان المؤسسات الدولية المؤثرة أن تفرض عليها بعضا من القواعد واللوائح، لاسيما أن هناك أدوات مختلفة يمكن أن تساعد في تحويل القواعد واللوائح إلى واقع. هذا لا يعني التدخل المباشر في هذه البلدان، بل تحديد الأطر العقابية التي تؤثر مباشرة في هذه الحكومات الفاسدة. العالم يحتاج إلى التحرك والإنفاق في آن معا، خصوصا إذا علمنا أن 1 في المائة فقط من إجمالي الناتج العالمي، يمكن أن يقضي تماما على الفقر المدقع. صحيح هذه النسبة إذا تحولت إلى رقم قد تبدو صادمة، ولكن الصحيح أن رقما يصل إلى عشرة تريليونات دولار لا يشكل شيئا قياسا بحجم النتاج العالمي كله. وهذا المبلغ لا يتعلق فقط بالقضاء على الفقر، بل أيضا يتضمن مواجهة التحديات المناخية المخيفة، وبالطبع تقليل الفوارق الاقتصادية بين البشر. المشكلة هنا، أن معظم هذا الكلام يبقى نظريا لأرقام وحقائق عملية واقعة. وإذا لم يتم التحرك بصورة توازي مخاطر الفقر والتغييرات المناخية التي تسهم في ارتفاع حدة الفقر، وغير ذلك من العوامل السلبية الأخرى، علينا ألا نتوقع تحقيقا لأي أهداف إنسانية سامية في مواعيدها.
إنشرها