Author

أمريكا في مأزق الدولار .. وتبعاته الاقتصادية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
العملة هي مخزن للقيمة، لكن هذه القيمة ليست مستقرة في العملة الورقية اليوم، كانت مستقرة عندما كانت مجرد ورقة إثبات لحصة من الذهب في البنك المركزي، لكن مع قرارات الولايات المتحدة لكسر قاعدة الذهب، أصبحت قيمة العملة في مهب رياح الاقتصاد. لم يجانب الولايات المتحدة الصواب عندما كسرت قاعدة الذهب في حينها، ذلك أن العالم ككل، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية كان يبحث عن الدولار لشراء المنتجات الأمريكية، فالعالم حينها كان غارقا فيها، حتى أوروبا كانت غارقة في خطة مارشال التي استندت إلى المنتجات الأمريكية ولم يكن الذهب يستطيع تغطية ضخامة الإنتاج الأمريكي في حينها، ولم يكن أحد يطلب تبادل عملته من الدولار بالذهب، لقد كانت المنتجات الأمريكية ذهب العالم. تغير الحال كثيرا جدا اليوم، فمنذ الثمانينيات من القرن الماضي تراجع ميزان المدفوعات الأمريكي بشكل حاد ورغم محاولات إنعاشه إلا أن الفجوة ما زالت كبيرة، بينما ميزان المدفوعات الصيني تنامى بشكل واسع ويحقق فوائض، وكذلك ميزان المدفوعات لعدة دول صناعية أخرى مثل الهند، وهذا معناه ببساطة أن منتجات هذه الدول مطلوبة على مستوى العالم أكثر من المنتجات الأمريكية التي لم تعد قادرة حتى على تحقيق الاكتفاء الذاتي. من المدهش أن ترى تقارير تشير إلى نقل المصانع من الصين إلى الولايات المتحدة في حركة عكسية لم يكن أكبر متفائل اقتصادي صيني يحلم بها. وعندما نشبت المعضلة المالية الأمريكية عام 2008 تساءل العالم، هل نحن بحاجة إلى الدولار فعلا لشراء منتجات صينية، أو هندية أو كورية؟ لماذا علينا أن نحول أموالنا لدولار (لا نحتاج إليه) ثم نعيد تحويلها للعملة الصينية لشراء منتجات صينية. إن هذه العلاقة غير المفسرة سببها التزام الصين بالمحافظة على احتياطيات من الدولار لمواجهة أي تقلبات في سعر العملة، لكن بغير هذا الأمر ولو قررت الصين أمرا يتعلق بعملتها فإن الحاجة إلى الدولار قد تتلاشى عالميا، عندها يعلم الله وحده ماذا سيحصل للاقتصاد الأمريكي. لم يعد للولايات المتحدة الأمريكية ما تبرر به قوة الدولار إلا ثقة العالم بقدرتها على سداد سنداتها وفوائدها في أي وقت، فهي تدفع فوائد على سندات الخزانة الأمريكية بشكل منتظم حتى والتصنيفات العالمية لها مرتفعة بشكل قياسي، هذه الثقة سببها قوة الولايات المتحدة العسكرية والسياسية فقط. لكن ملامح التدهور أصبحت بادية سياسيا فالولايات المتحدة تخسر على كل الأصعدة، وها هي تفشل حتى في إقناع روسيا بوقف حمام الدم في سورية، وأخيرا فشلت السياسة الأمريكية الداخلية في تجنب رفع قضايا ضد أصدقاء الولايات المتحدة، فمن سيبقى على ثقة بالولايات المتحدة سياسيا، وإذا فشلت عسكريا في أي قطاع فإن كارثة ضخمة ستحل هناك ولا شك عندي. لم يكن قانون جاستا (العدالة ضد رعاية الإرهاب) إلا مسمار في نعش الدولار، ولأن صناع القرار الأمريكي لم يعد لهم أمل في إنعاش الاقتصاد الأمريكي إلا من خلال استخدام القوة الأمريكية بحجز أموال الدول التي تدعم اقتصادها، فإن العالم حتما سيكون حذرا جدا في المستقبل قبل أن يضع أمواله في سندات أمريكية جديدة، وقد تتعرض الولايات المتحدة إلى مشكلات لا حصر لها، نعم قد يؤخر قانون جاستا من انهيار الدولار الحتمي، لكنه لن يوقف التدهور أبدا. بالطبع فإن قانون جاستا ووضع الدولار بشكل عام يضع صناع القرار الاقتصادي في المملكة أمام خيارات دقيقة وصعبة، ولكن أيضا (وهذا هو الأهم) سيعجل من سرعة حسم ملف الدولار في المملكة، وسيدفع عجلة التغيرات الاستراتيجية، كما أنه سيقدم دعما شعبيا واسعا لمثل هذه القرارات. فالتحول استراتيجيا نحو الصين أصبح ممهدا تماما، وأيضا سيفتح خيارات واسعة أمام توسيع التعاملات مع الصناعة الهندية، خاصة في مجالات التقنية. وسيكون أمام الاقتصاد السعودي اختبار قدرته على تحمل التقشف. تحرير التعامل مع الصين والهند، سوف يخفف كثيرا من آثار التقشف، خاصة إذا تم التخلص من الاحتكارات التي نشأت نتيجة العلاقة الاقتصادية مع أمريكا، تحرير السوق مع المنتجات الصينية سيقدم دعما هائلا للاقتصاد السعودي؛ وذلك بشرط التعامل المباشر مع الصين دون العودة للدولار. في المقابل أعتقد أنه من المهم نقل الصناعة الهندية إلى المملكة، خاصة في مجالات التقنية، ومنح الشركات الهندية مساحات عمل واسعة وتحرير سوق العمل معها، العمال والشركات الهندية قادرون على الابتكار، ومنح السوق السعودية مساحات عمل واسعة نحو الاكتفاء الذاتي، والتخلص من أثر الدولار تماما على المدفوعات. سيكون على الاقتصاد السعودي تحمل آثار إصلاح الميزانية العامة للدولة، وإصلاح فجوات الرواتب التي أصابت القطاعين الحكومي وشبه الحكومي، وتراكمت على مدى عقود، لا بد من ذلك على المدى المتوسط، لكن في المقابل يجب أن يتم إصلاح القطاع الخاص بسرعة وتحريره من الاحتكارات بقوة الدولة، وتحسين الرواتب في القطاع من خلال إصلاح سياسات توزيع الدخل هناك. لقد تعرض كثير من الشركات لأزمات هائلة أثرت في الاقتصاد والمجتمع، نظرا لما تمتعت به هذه الشركات من احتكارات ضخمة وأيضا عدم نشرها أي معلومات مالية تمكن من تقييم حالتها وكيفية توزيع الدخل، مثل هذه الشركات ما زالت كثيرة في الاقتصاد ويجب تحويلها وتفتيتها إلى شركات أصغر بحسب القطاع، وتحويلها إلى شركات مساهمة، يمكن مراقبتها ومحاسبة مجالس الإدارة فيها. وعلى كل الأحوال فإن الاقتصاد السعودي قوي بلا شك، وهو يملك بدائل استثمارية متنوعة، وبنية قادرة على المرور بسلاسة إلى المستقبل الذي سيحمل في سماته صورة الحاضر فهو ابن قراراتنا اليوم.
إنشرها