Author

«الأحمر» لم يعد اللون السياسي الجذاب

|
كاتب اقتصادي [email protected]
" نواب حزب العمال في البرلمان جزء مهم من الحزب، ولكنهم ليسوا الحزب كله" جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني المعارض يبدو أن الهزات السياسية والاقتصادية في بريطانيا لن تتوقف عند حدود الاستفتاء البريطاني الشهير الذي أدى لقرار خروج البلاد من عضوية الاتحاد الأوروبي. فالأحزاب الرئيسة في المملكة المتحدة تعيش فترة أكثر من عصيبة، لتصل إلى مرحلة الخطورة. هذا حزب المحافظين الحاكم المنقسم على نفسه بفعل أوروبا، بصرف النظر عن التماسك "المتكلف" الذي تحرصه قيادته على إبرازه. هذا الحزب القومي الاسكتلندي الذي يفتش عن أي ممر ينقل الإقليم للخروج من تحت التاج البريطاني. وهذا أيضا الحزب الجمهوري الإيرلندي الذي وجد هو الآخر الفرصة مناسبة لطرح مسألة الاستقلال التي يفترض أنها انتهت إلى الأبد. لن نذكر الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي بات شبه منته في أعقاب الانتخابات البريطانية العامة الأخيرة، التي غيرت بالفعل بعض ملامح المشهد السياسي المحلي بشكل عام. أما المسألة الأكثر تفاعلا الآن على الساحة البريطانية بعد قضية الانفصال ومفاوضات الخروج التي لا تزال مؤجلة، تبقى تلك الخاصة بحزب العمال المعارض، الذي يمر بمرحلة من التوتر والخلافات الداخلية التي قد تؤدي إلى انقسام الحزب إلى حزبين وربما أكثر. والسبب ليس نتيجة الاستفتاء الشهير على خروج بريطانيا من الاتحاد، بل لتمسك زعيم الحزب جيرمي كوربين بموقعه على الرغم من مطالبات صريحة وعلنية من قيادات فيه بضرورة التخلي عن هذا الموقع، ليس لأسباب شخصية، بل لاعتبارات تتعلق بمصلحة الحزب نفسه. "العمال" – كما هو معروف- الحزب الثاني في البلاد من حيث القوة، رغم أنه خسر الكثير من حضوره النيابي في الانتخابات العامة الأخيرة لمصلحة الحزب القومي الاسكتلندي. لكن كل هذا ليس مهما الآن بعد أن رفض كوربين الانصياع إلى رغبة قيادات الحزب، والتمسك بأصوات أعضاء الحزب التي أوصلته إلى هذا الموقع. الرجل رفض الاستقالة، بل أعلن تحديه لمن يرغب في التحدي لخوض سباق زعامة حزب العمال، وهكذا كان، وتحقق النصر مرة أخرى لكوربين ليتكرس زعيما للحزب إلى أن يظهر متحد آخر في الفترة المقبلة أو ربما في السنوات القليلة القادمة. هذا الانتصار الذي حققه زعيم الحزب فتح الأبواب على مصاريعها أمام أولئك الذين يعتقدون أن «العمال» لن يصل إلى السلطة طالما أن كوربين على رأسه، وأن حزب المحافظين سينعم بعدة سنوات مقبلة من الراحة الانتخابية، لأنه لن يكون هناك منافس حقيقي له. والحق أن ذلك سيمثل قوة دفع للحزب الحاكم الذي يعاني هو نفسه خلافات صامتة، وتحديات صارخة. يمثل حزب العمال البريطاني أهمية كبيرة في المشهد السياسي للمملكة المتحدة، ليس فقط لأنه الثاني من حيث الحجم النيابي بعد «المحافظين»، ولكن أيضا لأنه مؤسسة سياسية عريقة جدا، مرت بمراحل مختلفة أسهمت في تشكل التاريخ البريطاني. جيرمي كوربين اليساري المتشدد ليس أول زعيم يكتسب هذه الصفة، لكنه أول زعيم وصل إلى قمة الحزب، بعد تعديلات تاريخية عليه دفعت الناخب البريطاني إلى انتخابه بأغلبية ساحقة في الانتخابات العامة عام 1997 وطرد «المحافظين» من السلطة، بعد أن بقي في صفوف المعارضة لقرابة عقدين. بمعنى أن "كوربين الأحمر" لم يعد مناسبا لا لهذه المرحلة ولا المراحل المقبلة. لكن الأمور في حزب العمال لا تجري هكذا لأن عملية اختيار الزعيم تخضع لتصويت النواب وأعضاء الحزب. لكن مهلا من هم غالبية أعضاء الحزب؟ هم ببساطة أعضاء النقابات العمالية المختلفة التي لا تزال تتمسك بالأفكار اليسارية الأكثر تشددا على الرغم من أنها (أي النقابات) تعرضت لانتكاسات عديدة على مدى العقود القليلة الماضية، سواء من خلال حكم حزب المحافظين، أو في ظل حكومة توني بلير العمالية نفسها. فهذا الأخير هو الذي استطاع أن يلغي أهم بند من تلك التي يقوم عليها الحزب، الخاص بمسألة امتلاك وسائل الخدمات والإنتاج. القضية واضحة جدا، الذين يريدون من كوربين المغادرة هم في الواقع الغالبية العظمى من نواب الحزب الممثلين في مجلس العموم، والذين يريدونه مستمرا (وهذا ما تم) أعضاء الحزب العاديون وهم الأغلبية العظمى ضمن الحزب. الأسئلة كثيرة تطرح الآن على الساحة السياسية في بريطانيا، خصوصا تلك المتعلقة بوضعية حزب المعارضة الرئيس أمام حزب المحافظين الحاكم الذي لا تزال رئيسته تقود البلاد دون انتخابات عامة أصلا. وسواء جرت انتخابات عامة اليوم أو غدا أو بعد غد، فإن المؤشرات كلها تدل على أن «المحافظين» سيظلون في الحكم لفترة لن تكون قصيرة. والسبب أن حزب العمال لم يعد في وضعية انتخابية سليمة، فضلا عن أنه مهدد بالانقسام. يضاف إلى ذلك، أن الناخب البريطاني لا يزال يعيش آثار استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو حتى الآن لا يعرف كيف سيكون شكل بريطانيا في أعقاب الانفصال الفعلي. في بريطانيا اليوم، تغييرات محورية ليست مع الخارج بل في قلب داخل الداخل.
إنشرها