Author

«مملكة الخبراء» بلا خبير واحد

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"إذا غادرنا الاتحاد الأوروبي، فستكون مغادرة بتذكرة ذهاب فقط لا عودة" ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السابق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لن يتوقف عند الانسحاب فحسب. والسبب بسيط يعرفه الجميع، هو أن الروابط التي نمت بينها وبين الاتحاد تأصلت على مدى عدة عقود. لا يعني هذا أنه لا يمكن اقتلاعها، بل سيكون من الصعب القيام بذلك، وسيتطلب الأمر وقتا أطول مما تصوره محبو الاتحاد، وأولئك الذين يكرهونه. تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية، لا تريد أن تعرض الانسحاب على مجلس العموم، لماذا؟ لأن أغلبية أعضاء هذا المجلس أيدوا بقاء بلادهم في الاتحاد الأوروبي. ورغم أن عدم عرض هذه القضية المصيرية للتصويت في المجلس يعد تجاوزا قانونيا خطيرا، لكن لن يتنبه أحد كثيرا إلى هذا التجاوز، لأن قرار الشعب أهم من قرار ممثلي الشعب. هذا هو سلاح ماي ضد أولئك الذين يقدسون القانون، ويعدونه فوق كل شيء. لتبحث اسكتلندا عن سرداب منسي منذ حقبة الصراع الإنجليزي - الاسكتلندي. ولتفتش إيرلندا الشمالية عن نفق من أنفاقها الاحتياطية التي بقيت على مدى عقود من المواجهات الدامية بين الجمهوريين والملكيين. لتندمج ويلز أكثر مع كل إنجلترا ما عدا لندن. نعم، العاصمة التي قاتلت في الاستفتاء من أجل البقاء في الاتحاد، إلى درجة أن صدرت أصوات من "حبيبة" أوروبا المتطرفين فيها، تنشد حتى انفصال لندن عمن؟! عن إنجلترا أو عن بريطانيا أو عن المملكة المتحدة، لا فرق بين كل هذه التسميات في الحالة اللندنية. أحدثت هذه التفاعلات وردود الأفعال اضطرابات ليس فقط في المجتمع البريطاني، بل أيضا عين الفكر بهذا البلد. لعل صدمة الخروج الذي كان مستبعدا، حتى عند الخارجين بعواطفهم من أوروبا، زادت من انعكاسات الإرباك. كل هذا وارد، وستظهر على الساحة حالات ربما ستكون غريبة، لكن الذي لم يخطر على بال أحد بالفعل، أن تعاني بريطانيا عدم وجود خبير واحد فيها يمكنه أن يحدد معالم مفاوضات الخروج التي ستجري بينها وبين المفوضية الأوروبية! ليست نكتة، إنها حقيقة اعترفت بها علانية رئيسة الوزراء نفسها. صحيح أنه لم يحدث أن خرجت دولة عضو من الاتحاد الأوروبي، لكن الصحيح أيضا أن بريطانيا علمتنا إنتاج الخبراء حتى عن طريق صناعة حالات غير معقولة وغير مطروحة أو غير محتملة للتخصص فيها. ويبدو واضحا، أن البريطاني جون كير عضو مجلس اللوردات الحالي، والدبلوماسي السابق الذي وضع المادة 50 في معاهدة لشبونة التي تحدد أطر انسحاب أي دولة عضو من الاتحاد، يبدو واضحا أنه لا يعد خبيرا لدى الحكومة الحالية، ربما لأنه قال علانية، إنه لم يتوقع أن تطبق هذه المادة على أي بلد في أي يوم من الأيام. من هنا، قد يتأجل خروج بريطانيا فعليا إلى نهاية عام 2019. بمعنى أن المادة المذكورة لن تفعل قبل نهاية العام المقبل. البعض يتحدث عن تفعيل في أوائل عام 2017، وآخرون يشيرون إلى منتصفه. كل هذا لا يهم، كما أن نداءات الأوروبيين بضرورة التفعيل الفوري ليست كافية لإجبار لندن على ذلك، أو أنها دون مستوى التأثير. يقول مصدر في حي الأعمال اللندني، إنه ناقش المسألة مع وزيرين، وأبلغاه، "أن وزراء يعتقدون حاليا أن العملية يمكن أن تتأجل إلى خريف عام 2017. وأنه ليس لديهم البنية التحتية للأشخاص الذين يجب توظيفهم تمهيدا لهذه المفاوضات"! أي أن بريطانيا تحتاج إلى وقت من أجل العثور على من يفهم في أمر الخروج وتداخلاته، والأهم نتائجه المتوقعة! يعترف مسؤولون في حكومة ماي في جلساتهم الخاصة، بأنهم لا يعرفون حتى ما الأسئلة المناسبة التي يجب طرحها عندما تبدأ المفاوضات مع أوروبا! هذا التخبط، قد يترك مجالا لأولئك المشككين التقليديين في نيات بريطانيا ككل (وهم كثر)، بأن ذلك ليس سوى مناورة بريطانيا لتعطيل بدء تفعيل المادة الخاصة بالانسحاب من المعاهدة الأوروبية. ولهذا التشكيك بعض الوجاهة، إذا ما نظرنا إلى قدرة المملكة المتحدة على إنتاج ما يطيب لها وما لا يطيب لغيرها من الخبراء في كل شيء. لكن لا يبدو الأمر هكذا بالفعل. فحتى الكبار يواجهون السقوط في الامتحانات ولو كانت بسيطة. وقد يكون السقوط نفسه من فرط بساطتها. فكيف الحال بهذا الامتحان الذي تضع فيه كل جهة من المعسكرين أي سؤال؟ لو استطاعت الحكومة البريطانية أن تقنع الأوروبيين وجماهير الانسحاب بضرورة إنشاء معهد لإعداد الخبراء في شؤون الانفصال، لفعلت ذلك. إن مثل هذا الأمر سيعطيها مزيدا من الوقت في حضن الاتحاد الذي لا تزال تشعر بدفئه بل حمايته. لكن الأمور لا تجري هكذا حتى لو رغبت المملكة المتحدة في ذلك. إن الخروج سيتم، ولا بأس من تأخيره عدة أشهر، كما أن بريطانيا العظمى بحكومتها الحالية أثبتت بالفعل حصانة الشعب، بوضعها آراء ممثليه في الدرجة الثانية، أي أنها وضعت القانون ثانيا. ولكن مهلا، ألم يضع الشعب نفسه هذا القانون؟
إنشرها