Author

الفضاءات المفتوحة .. وتعليم المستقبل

|
أذكر أني اطلعت على كتاب "الطرف الطويل" قبل نحو خمس سنوات وقرأت فيه أن العالم سيتعرض لوابل من التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية نتيجة التحول للعالم الرقمي الافتراضي، ولا أخفيكم أنني مهما تخيلت هذا التحول لم أكن أتصوره لعدم وجود تجربة سابقة في هذا المجال، ولا شك أننا اليوم نعيش مظاهر هذا التحول المتسارع الذي سهل لنا حياتنا وأوجد لنا مصادر معرفة وتواصل اجتماعي وتسلية جديدة كما أنه أوجد لنا مصادر قلق كثيرة خصوصا نحن الكبار، حيث بتنا نقلق على أولادنا ذكورا وإناثا خاصة الأطفال والمراهقين منهم. أحد أولياء الأمور يقول لي أصبح التواصل مع جميع أنواع البشر الذين يضخون جميع أنواع الأفكار والمفاهيم والقيم والمنتجات متاحا لأبنائنا بعيدا عن أعيننا وبعيدا عن توجيهاتنا، ولم نعد نعرف على ماذا اطلعوا، ومع من يتواصلون؟ وماذا يفضلون؟ وماذا يكرهون؟ وما هي المعارف والمفاهيم والقيم الراسخة في نفوسهم؟ ولقد بتنا نتفاجأ بردود أفعالهم وأفكارهم حيال توجيهاتنا. ويضيف، لا يمكن أن نمنعهم عن التقنية الحديثة فالهواتف الذكية المرتبطة بالشبكات الإلكترونية أصبحت في يد الجميع وكذلك تطبيقاتها التي جعلتهم ينفذون لما نخشاه وينفذ لهم الآخرون من حيث لا نعلم فباتت الصور والأفلام الإباحية متاحة كما باتت أفكار كافة الملل والنحل والملاحدة متاحة أيضا، وأصبح تجار الإرهاب والمخدرات يصطادون الشباب بحيل شيطانية أوقعت بعضهم في حبالها. ويتساءل، هل المنع هو الحل؟ وهل الرقابة الدائمة هي الحل؟ أم التحصين الفكري والمعرفي والثقافي هو الحل؟ مؤكدا أن مواقع التواصل الاجتماعي لها دور كبير في الإثراء المعرفي والفكري ولها دور كبير في إعادة تشكيل الوعي نحو الأفضل إذا ما أحسن الأطفال والشباب استخدامها ولكن كما نعلم جميعا المعروض الغرائزي والعاطفي أشد جذبا وتأثيرا من المعروض العقلاني المنطقي، مبينا أنه رغم معرفته وتقدم سنه ونضوج فكره إلا أنه ينجذب للأمور الغرائزية والعاطفية فما بالنا بالأطفال والشباب الذين تبهرهم مثل هذه الأمور وقد تدخلهم في دوامات نفسية إذا شاهدوها. هذا الحديث جرنا إلى مسألة المسؤولية حيث إن الموضوع معقد ويتطلب دراسات وبحوثا وجهدا استشاريا من متخصصين للتعاطي مع هذه الثورة التواصلية للاستفادة من فرصها وتجنب مخاطرها ومنها مسؤولية الأسرة، ومسؤولية المدرسة، ومسؤولية الإعلام، ومسؤولية الأجهزة الحكومية المعنية، ومسؤولية المجتمع ممثلا بنخبه الفكرية والاقتصادية والاجتماعية. والمسؤولية هنا نوعان، الأولى تحصينية بتأهيل الأطفال والشباب فكريا ومعرفيا وتوعيتهم بما هو نافع ومفيد وبما ضار وخطير، وكيف يتعاملون مع كل ما هو مريب، والثانية حمائية بتدخل الأجهزة المعنية بمكافحة الجريمة والمخدرات والخمور والدعارة والتسول والإرهاب والفتنة الطائفية والعنصرية وغيرها لمراقبة هذا الفضاء الافتراضي ورصد أصحاب الحسابات المشبوهة وضبطهم وإحالتهم للقضاء ومعاقبتهم والتشهير بهم لردع غيرهم من الولوج في هذا الطريق الإجرامي. يبدو لي أن المسؤولية الحمائية هي الأسهل حيث إن الأجهزة الحكومية المعنية لديها المعرفة والتقنية وتستطيع المتابعة والرصد والضبط واتخاذ الإجراءات القانونية في إطار تطبيق نظام الجرائم الإلكترونية، وإن كانت هذه المهمة ليست بالسهلة إلا أنه بكل تأكيد تحصين الأطفال والشباب في هذه الفضاءات المفتوحة أمر غاية في الصعوبة ويتطلب جهودا تحليلية وتشخيصية عميقة ومتواصلة بالتزامن مع تخطيط استراتيجي مرن وبرامج تنفيذية مستمرة تقدمها الأجهزة ذات الصلة وعلى رأسها وزارة التعليم التي يمكن لها أن تتواصل بشكل مباشر مع ملايين الطلاب وتضخ في عقولهم المعلومات التوعوية وترسخ في نفوسهم القيم والمفاهيم السليمة وتحذرهم من كل أنواع الأساليب والحيل والمواقع السيئة. ولكن هل تكفي التوعية أم أن الأمر يتطلب تعليما نوعيا جديدا يمكِّن الأطفال والشباب من التعاطي مع ما يقدمه العالم الافتراضي من فرص تثقيفية وتوعوية ومن مخاطر فكرية وإجرامية؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف مستوى الطرح الفكري في وسائل التواصل لنهيئ طلابنا للتعامل معه إذ لا يمكن لطالب تعلم بأسلوب الحفظ والتلقين دون تفكير، وتعلم ذاتي يقوم على البحث والتحليل والاستقراء، أن يواجه ما يطرحه الآخرون فيما يتعلق بما رسخ بذهنه من معارف ومعتقدات ما يجعله أمام حالتين، الأولى الاستجابة لما يطرحه الآخر وتبنيه دون تفكير، والثانية الرد على الآخر بالسباب والشتائم دون حجة أو دليل ما يجعله لقمة سائغة للطرف الآخر أمام المتابعين. قال لي أحد الباحثين في الدين إن تطبيق أركان الإسلام العملية من صلاة وصيام وزكاة وحج إضافة للشهادتين دون رسوخ أركان الإيمان في قلب المسلم يجعله مرتابا وعرضة للشبهات إذ إنه يعمل دون فهم عميق راسخ ولذلك قال الله في محكم تنزيله "الأَعْرَاب أَشَدّ كفْرا وَنِفَاقا وَأَجْدَر أَلاَّ يَعْلَمواْ حدودَ مَا أَنزَلَ اللَّه عَلَى رَسولِهِ وَاللَّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ "التوبة (97)، حيث إنهم أسلموا ولم يدخل الإيمان "القناعات الراسخة" في قلوبهم "قَالَتِ الأعْرَاب آمَنَّا قل لَّمْ تؤْمِنوا وَلَكِن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخلِ الإِيمَان فِي قلوبِكمْ" الحجرات 14، ولذلك فهم في ريبة وفي مهب الريح عند مواجهة أي فتنة فكرية أو مادية، ويضيف واستثنى الله من الأعراب من آمن بقوله "وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يؤْمِن بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذ مَا ينفِق قربَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسولِ أَلا إِنَّهَا قرْبَةٌ لَّهمْ سَيدْخِلهم اللَّه فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَّحِيمٌ" التوبة (99). كل ذلك يوضح أن القناعات الراسخة القائمة على الفهم العميق نتيجة التفكير والبحث تشكل الحصانة بينما العمل دون فهم عميق ودون بحث وتعلم يجعل الإنسان في ريبة وغير محصن فكريا ليتمكن من تمييز الطيب من الخبيث. ختاما، أتطلع إلى أن تأخذ وزارة التعليم بعين الاعتبار ما يتعرض له أبناؤنا بكل أعمارهم في ظل الفضاءات المفتوحة من أفكار ومعلومات وشبهات ودعوات باطلة واستقطابات، ومن ثم تطور التعليم بما يمكِّنهم من مواجهة التحديات كافة.
إنشرها