Author

السياسة كلام .. لا تصدقوا غير ذلك

|
نعم، لا تصدقوا أن السياسة أعمال، هذه خدعة كبرى أحبائي كأن تخدع الصحراء تائها عطشا تحت سماء القيظ التي بلا السحب، والرمال الخالية من النبت، أن واحةَ وراء الكثيب القريب، وفيها نخل يميل من الثمرات، وعصافير تزقزق، ومياه زلال تتفجر من عين الأرض.. فإذا كله سراب. "في البدء كانت الكلمة"، هذه ليست جملة إنجيلية فقط، بل أصبحت بيرقا لكل سياسي على الأرض من أيام "نيرون الرهيب" إلى أيام "دونالد ترمب.. الحبيب!". قاد ونستون تشرشل بريطانيا "وخادع أمريكا وراوغ روسيا، وكانا من حلفائه" بالكلمات. كان تشرشل موهوبا في الخطابة، كما قال عنه صديقه اللدود الإيرلندي الساخر برنارد شو "وأترجمها بتصرف، لأن برنارد شو لم تؤدبه أمه كفاية فيطلق الكلمات الخارجة كما هي" يقول: "هذا الرجل قبلاته حروق سيجار حارة، ودماغه شراب اسكتلندي لاذع، وشحمه كلمات من أفخم الطوب اللغوي الإنجليزي.. فخدعنا جميعا". تشرشل كان أقوى سلاح ملكته الترسانة الغربية في الحرب العالمية الثانية، أو بالأحرى لسانه الذي يتعلق به سيجار ضخم كأنه خلق معه. وأكبر مجرمي الأرض، كما تسميه صفحات التاريخ الغربي، أدولف هتلر الألماني النمساوي، كان من أبرع من ملك ناصية اللغة الألمانية الصقيلة، وكان مثقفا لغويا جرمانيا لا يشق له غبار. هل تعلمون أن له لغة حالمة يتحاور مع الفتيات في شبابه وكأنه عطفات "ريلكه" الرقيق الحشى، ويستعير لغة "جوتة" الشاعر الإنسان الصوفي، ويهدر كما يهدر أهل بافاريا بألمانية منحوتة من جبالها مثل "نيتشه" مخترع السوبرمان.. الذي أراد هتلر أن يكونه.. وكاد. فصاحة هتلر وفنونه الخطابية نومت مغناطيسيا أعقل أمة كانت أكثر مادية وتقدما صناعيا، وقادها كلها لحلم الأرومة الجرمانية الدم النبيل الأوحد الذي يستحق أن يعيش فآمن به الألمان ذاك الوقت.. وما زال له معجبون متيمون في كل أصقاع الأرض. كان الملك فاروق في مصر ليس مصريا أي ليس عربيا، هو من سلالة أرستقراطية ألبانية، ثم أنهم حبسوا أنفسهم من فؤاد الأول تماما بالثقافة الفرنسية وسط حكم إنجليزي مسيطر.. ولم يكن فاروق فصيحا، ربما بالفرنسية، ولكن ليس بالعربية، ولو أراد العقاد أن يخطف مصر آنذاك لاستطاع، لولا إيمانه العميق بالديمقراطية التي كانت في مصر الملكية. قام العقاد يوما بقامته الفارعة ووسامته الصلبة الكردية، وطبع أهل النوبة الذي يتفجر بركانا لو مست له كرامة وأطلق خطبة بلاغية عصماء في البرلمان دارت بكل أركان مصر "وما فيه فيسبوك ولا تويتر ولا سناب شات" قال فيها ما لا يقال.. ووافق أن يدخل السجن، وفي رأيي لو واصل سياسيا ومطمعا ثوريا لكان أشد تأثيرا من مصطفى كامل وسعد زغلول معا. وقيض لعبد الناصر وحيدا ربط حبال ثورة يوليو 52م ببلاغته الخطابية وجماليته الشخصية مع أنه غيَّر مصر التي كانت في طريقها لتكون واحدة من أكثر دول العالم رقيا. لا تصدقوا أن السياسة أفعال هي كلمات، كلمات تقلب العالم. لا تنسوا أن "أردوغان" أوقفت معه أو اتجهت ضده، واحد من أساطين الخطابة بالتركية، لذا كانت كلمات قليلة "بالفيس تايم" كافية أن تغير تاريخ تركيا في ساعات.. ضد أقوى جيش في أوروبا. دار كل هذا في ذهني وأنا لا أتحمس ألبتة للانتخابات الأمريكية، فانتخابات المجلس البلدي في الدمام عندي أهم! ولكني انتظرت أمام الشاشة لأسمع رجلا لا أحبه وأغرم بسحره اللفظي، وكأن جانا عصريا سكن تحت لسانه، وهو كلينتون الزوج، الرئيس الأسبق للأمة الأمريكية. لا يمكن أن يقف كلينتون ويرتجل خطابا إلا ويلحس عقول الناس، ويخطف عقولهم مع قلوبهم ببلاغته وجمال لفظه الموشى بلهجة الوسط الأمريكي الذي يعرف فيها كيف يراقص الحروف ويروي القصص والمشاهد.. بعد خطبته في حفل اختيار مرشحة الحزب الديمقراطي زوجته هيلاري.. وقفت كل أمريكا على آذانها!
إنشرها