Author

بين امتداد التخصص وتعدد المهام

|
يندم اليوم بعض الشباب على تغيير التخصص الدراسي وعلى السنوات التي ضاعت -حسب وجهة نظره- في تخصص لا يحبه ولم يجد نفسه فيه. تزداد المعاناة عندما يربط هذا الشاب كل تحد يواجهه في حياته المهنية بذلك القرار "الخائب". نحن نعزز من شعور الندم عند هؤلاء بتأكيداتنا المستمرة على أن أحد أهم مشكلات البناء المهني محليا ترتبط أساسا باختيار التخصص المناسب. مشكلة اتخاذ هذه القرارات بطريقة غير سليمة واقع لا شك فيه، لكننا لا نتعامل معها بأسلوب جيد في معظم الحالات. يواجه كذلك الباحث الأكاديمي الذي لا يزال في طور البناء مشكلة امتداد التخصص. ولهذا حديث ذو شجون يختلف باختلاف التخصصات تمارسه القيادات واللجان الأكاديمية ويعيش واقعه الطالب المبتعث. أما الناجحون مهنيا في الشركات فهم دائما ما يقعون في معضلة تعدد المهام وخدعها المتنوعة التي تتطلب مهارات نوعية تسمح بالتفريق بين المهام وإعادة ترتيبها وليس القيام بها في اللحظة نفسها، لاستحالة ذلك عمليا وذهنيا. قبل عدة سنوات، تحدثت مقالة في مجلة هارفارد للأعمال HBR عن انتهاء عصر التخصص وقدوم عصر جديد من التخصص "المفرط" والدقيق Hyper-specialization في شتى مجالات الحياة. استعرضت المقالة تنبؤات آدم سميث حول تقسيم الأعمال وازدهار التخصصات وذكرت أن الدورة الجديدة من الثورة الصناعية والتقدم الرقمي تمكننا من التعمق بشكل أكبر في المهارات التخصصية الفردية بشكل لا يكاد يوصف حتى إن بعض المشاريع الكبرى -في مجال تطوير البرمجيات على سبيل المثال- ينفذها اليوم متخصصون في جوانب دقيقة يتوزعون بين دول مختلفة ويقومون بالعمل بشكل مستقل إلى حد كبير ولكنه في الوقت نفسه قابل للدمج والتركيب بطرق مصممة بذكاء. تطور أساليب التواصل وتنوع القيمة وتقدم مفاهيم زيادة الكفاءة جعلت من هذه الأمور واقعا ممكنا، ولكنها في الوقت نفسه تطرح تحديات أخرى مثل التدني المحتمل للأجور في بعض التخصصات مع ارتفاعها بشكل مبالغ فيه تخصصات أخرى. إضافة إلى أن هذا الواقع يزيد من تحديات التنسيق والتواصل والإدارة ويعظم كذلك من مشكلة ندرة التخصصات في بعض المجتمعات. تذكر بعض نصائح النجاح المؤكدة فكرة الدمج بين أكثر من بارادايم مختلف، أي تعدد النماذج الفكرية والإدراكية عند الفرد وإدارتها باقتدار؛ وهذا يعني بطبيعة الحال تعددا للمهارات يتبع ذلك. يدخل التعلم والتخصص والخبرة التي نحصل عليها ضمن المدخلات التي تؤسس النموذج أو البارادايم الذي يسيطر علينا، ويصاحبهم في ذلك كم هائل من التحيزات والانطباعات والحقائق. أعتقد أن معظمنا يقع على طرفي نقيض، إما منغلقين في بارادايم ضيق، أو مخدوعين بتعددية مستحيلة لا يمكن أن تحصل. يكمن السر في صنع التوازن بين تأثير الأشياء المختلفة التي نعرفها والاستفادة من منظور أو جانب مقنن للحياة تعرفنا عليه ومارسناه في مرحلة ما، ولو غيرنا المسار لاحقا. من ناحية عملية، إن الوقت الضائع هو الوقت الذي نمضيه في الفراغ حين لا نقوم بشيء، وكل ما عدا ذلك يمكن أن يدرج تحت تمكين جوانب مختلفة ومهمة من حياتنا. أعتقد أنه لا يوجد قرار خاطئ وتخصص سيئ و"مقلب". بغض النظر عن عمق التخصص الذي يود أن يمارسه الشخص الناجح، لابد أن يقوم بعملية تجسير ودعم لما يمارس بعدة مصادر معرفية ومهارية مختلفة. لن ينجح صاحب التخصص الدقيق والمهم والحيوي جدا إذا لم يعرف كيف يصل لمن هو بحاجة إليه وكيف يتواصل معه بطريقة فعالة ومجدية ولن يكون امتداد التخصص هو الحل الأمثل والشرط الأساسي للنجاح الأكاديمي في كل التخصصات. قابلت شخصيا كثيرا من الشخصيات المبهرة التي تحولت من الهندسة إلى الإدارة ومن الطب إلى التعليم ومن الكيمياء إلى البرمجيات، ومعظمهم يفخر باستفادته من تجربته السابقة ولا يندم عليها. ستتطور طريقة تقسيم وتصنيف البشرية لمسؤوليات العمل ومهام الإنتاج بشكل مستمر وفي نظري أن حياة الإنسان العملية تكفي دائما لأكثر من تخصص، سواء بالدمج أو الفصل، بالترتيب أو بالتوازي. المهم، أن يملك متحري النجاح الإيجابية الكافية للاستفادة من تجربته الحالية والسابقة، وأن يعزز مناعته من جهل الآخرين وضعف النظام. أن يملك القدرة على التمحور والتنقل بين المجالات المختلفة بالاستناد على زوايا تخصصه أو تخصصاته، وأن يعرف متى يتعمق أكثر ومتى يتحرر بعيدا عن تأسيسه العلمي والنظري ولا يسجن نفسه في بارادايم ضيق محدد الزوايا مرسوم الحدود.
إنشرها