Author

بريطانيا .. الكهول يصنعون مستقبل الشباب

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«خروج بريطانيا لن يكون طلاقا وديا» جان كلود يونكر - كبير رئيس المفوضية الأوروبية ذرف رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون دمعة صادقة، عندما أعلن النتيجة النهائية للاستفتاء البريطاني حول عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي. ألقى خطابا على مدخل مكتبه، كان الخطاب الوحيد الذي لم يرغب حقا في إلقائه. أعلن هزيمة توجه آمن به حتى النهاية، وربط مصيره السياسي به. ولأنه من السياسيين الصادقين الذين مروا على المملكة المتحدة، رفض أن يكون رئيس وزراء في الفترة التي ستشهد الطلاق ـــ الانفصال عن الاتحاد. لأنه ببساطة لا يمكنه أن يقوم بمهام تتعارض مع قناعاته حتى بعد أن حصل تيار الانفصال على الشريعة الاستفتائية الحقة. في البلدان الراشدة، عندما تكون غير قادر على تسويق ما تطرحه وتؤمن به على الساحة الشعبية، فأنت غير مؤهل لأن تكون في موقع تصنع فيه القرارات بصرف النظر عن مدى أهمية هذه القرارات. انقسمت بريطانيا على نفسها، لأن الفارق بين المؤيدين للبقاء والرافضين له، ليس كبيرا عندما وصل إلى 1.2 مليون صوت تقريبا من جملة أصوات بلغت 33.5 مليون صوت. لكن المسألة ليس لها علاقة بمستوى النسبة، بل بمجمل النتيجة العامة. هذا لم يعد مهما، وكان على قدر من الأهمية في الساعات الأولى التي تلت الاستفتاء، لأن المصدومين من الجانبين يبحثون عادة عن أدق التفاصيل لا لتبرير النتيجة، بل لتخفيض حدة الصدمة. والطرفان تعرضا للصدمة حقا. فحتى أولئك الذين فازوا في الاستفتاء وأخرجوا بلادهم من الاتحاد، لم يكونوا متأكدين من أنهم سيحققون الفوز. خصوصا بعد أن قتلت نائبة بريطانية عمالية هي جو كوكس على مرأى من الناس، بيد متطرف حسب نفسه على تيار الانفصال. الدموع لم تعد مهمة الآن أيضا، لا أحد يستطيع تغيير النتيجة. وبدا واضحا أن المصير السياسي البريطاني مرتبط مباشرة بالحالة الأوروبية العامة. فالاتحاد الأوروبي دفع رئيس وزراء للاستقالة، وهذا الاتحاد "بصورة معاكسة" سيأتي بأولئك الذين يعتقدون أن الاتحاد في طريقه إلى الموت غير الرحيم، إلى الحكم. وهذا المصير ينسحب على بقية الحكومات المنضوية تحت لواء الاتحاد. أما لماذا هذا الترابط؟ فلأن الاتحاد انتقل على مراحل منذ خمسينيات القرن الماضي من تجمع اقتصادي صغير، إلى كيان أقرب للفيدرالية. فلم يعد يختص بالتجارة والصناعة والجمارك والخدمات المالية والبيئة والطاقة فقط، بل شمل أيضا النواحي الثقافية والفنية والتعليمية وكثيرا من القطاعات المحلية في كل بلدان هذا الكيان. دعك من أصحاب اتهام أن الولايات المتحدة وراء كل شيء! واترك أيضا، أقوال أولئك الذين يعتقدون أن بريطانيا خططت لكل هذا لأنها ترسم معالم استراتيجية سرية! وابتعد عمن يتحدث بلا دراية اتفاق سري أمريكي ـــ بريطاني لاتحاد بينهما! كل هذا هراء لا علاقة له بنتيجة الاستفتاء البريطاني. فالولايات المتحدة نفسها قلقة الآن لأن النفوذ الذي كانت تتمتع به بريطانيا في القارة الأوروبية تبخر، ولأن وجودها الاقتصادي في المملكة المتحدة يعتمد أساسا على سهولة الوصول إلى السوق الأوروبية، وأن اتفاق تجاري بين لندن وواشنطن سيكون في ذيل أولويات هذه الأخيرة. النظريات المريضة دائما حاضرة في كل الأحداث والتطورات، بل لنقل النظريات المضحكة أحيانا تكون حاضرة أيضا في مثل هذه المناسبات. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لن يتوقف عند هذا الحد. فقرار الانسحاب دفع بالسياسيين في اسكوتلندا وإيرلندا الشمالية لطرح موضوع الانفصال عن المملكة المتحدة نفسها، لماذا؟ لأن من أهم معايير بقاء بريطانيا كتلة واحدة أن تبقى في الاتحاد الأوروبي. وسيستغل الانفصاليون في الإقليمين المذكورين هذه "الهدية" للتحرك من أجل طرح قضية بريطانية محلية، يفترض أنه تم الانتهاء منها إلى الأبد. يعني، أن خروج بريطانيا من الاتحاد لن يضمن لها الاستقلالية التي تنشدها في النطاق الجغرافي التاريخي لها. وهذه مصيبة وطنية بكل المقاييس، لأنها تقود كما هو واضح إلى تفكك المملكة إلى الأبد أيضا. ولن يستطيع كارهو الاتحاد الأوروبي في بريطانيا "القتال" من أجل بقاء البلاد متحدة بكتلتها التاريخية المعهودة. لعل من أخطر حقائق الاستفتاء الأهم في تاريخ بريطانيا، أنه أظهر أن البريطانيين الشباب أيدوا البقاء في الاتحاد، بينما اختار كبار السن التصويت للانفصال. والمصيبة هنا أكثر بشاعة من أي مصيبة أخرى. لماذا؟ لأن كبار السن الذين انتهت أعمارهم الافتراضية أساسا، رسموا معالم مستقبل الشباب بطريقة مغايرة لرغبتهم! أليس هذا ظلما تاريخيا بغيضا لبريطانيا المستقبل؟ وللمفارقة، أنك لا تستطيع هنا أن تنشد شعار "على الجميع تحمل المسؤولية". في الواقع على شباب بريطانيا أن يتحملوا المسؤولية بمعايير غيرهم! نعم إنه الجانب المظلم في السلوك الديمقراطي، وهو بالتأكيد ليس عادلا، خصوصا عندما تمكن مؤيدو البقاء من الحصول على مليوني توقيع على عريضة في غضون ساعات بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء، تدعو لإعادة إجراء الاستفتاء مجددا. من هنا، ليس غريبا أن يطالب قادة أوروبا بعملية طلاق سريعة، على عكس ما يتمنى ديفيد كاميرون صاحب الدمعة الصادقة حقا.
إنشرها