Author

انقسام البريطانيين يقسم الأوروبيون

|
لم يكن تصويت البريطانيين على خروج بلدهم من الاتحاد الأوروبي مفاجئا لأحد، ومع ذلك شكل صدمة كبيرة لأولئك الذين "حاربوا" من أجل نتيجة مغايرة، وفي مقدمتهم ديفيد كاميرون رئيس الوزراء، الذي أبى أن يكون قائد المملكة المتحدة في مرحلة الانفصال، واستقال. هذا أيضا كان متوقعا. وقد بدا واضحا أن استطلاعات الرأي التي صدرت على مدى الأشهر القليلة الماضية، كانت متوافقة مع النتيجة، بعد أن منيت بسمعة سيئة في أعقاب الانتخابات البريطانية العامة الأخيرة، واستفتاء انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة. الفارق بين المؤيدين للبقاء وأولئك الذين فازوا بالخروج كان ضئيلا جدا. وهذا يعني أن بريطانيا المهزوزة باتت منقسمة، وأن الشرخ الذي أحدثه الاستفتاء سيبقى لفترة طويلة جدا إن لم يكن له تداعيات حتى على بقاء المملكة المتحدة كتلة واحدة. سارع حاكم بنك إنجلترا المركزي على الفور للتأكيد أنه جنب 250 مليار جنيه استرليني للتدخل إذا ما دعت الحاجة لذلك، ولا سيما بعد أن انهار الجنيه في أعقاب الإعلان عن نتائج الاستفتاء بصورة لم يسبق لها مثيل منذ ثلاثة عقود. وكذلك فعلت الأسهم البريطانية التي هبطت إلى ما دون مستوى هبوطها في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية قبل ثماني سنوات. واهتزت الأسواق الآسيوية وأسواق أوروبا. فالحدث تاريخي بكل معنى الكلمة، وله تأثيرات معروفة سلبا في الأسواق العالمية. كل ذلك، على الرغم من أن كاميرون أبقى الحال على ما هو عليه، حتى قدوم رئيس وزراء جديد في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، ورغم طمأنته بأن التغيير لن يحدث بصورة فورية ولن تتأثر أي جهة في الحال، من نتيجة الاستفتاء. بريطانيا قبل يوم الخميس الماضي، لم تعد كما هي بعده. والانقسام الشعبي يصاحبه انقسام سياسي حاد ضمن الأحزاب الرئيسة نفسها، إلى درجة يمكن وصف حالتها بوجود حرب أهلية. المسألة ليست مجرد عضوية في تجمع تم التخلي عنها، بل مصير له تبعاته على مدى عقود مقبلة. ومن هنا قرر البريطانيون أن تكون بلادهم الأوروبية خارج الاتحاد لا في قلبه، باتت ببساطة جارة لاتحاد هو الأقوى على وجه الأرض من كل النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية. وعلى هذا الآن، هناك استحقاقات ستجد الحكومة البريطانية المقبلة نفسها أمامها في موقف حساس غير سهل على الإطلاق، خصوصا في مرحلة المفاوضات الخاصة بالانسحاب التي تستند إلى البند رقم 50 من اللوائح الأوروبية التنظيمية الإجرائية. يعتقد المدافعون عن نتيجة الاستفتاء التاريخي الأكبر على الإطلاق في تاريخ البلاد، أن تداعياته ستكون على المدى القصير. غير أن المؤشرات على الأرض لا تدل على ذلك، وعلى هذا الأساس كان مفهوما عندما أبعد قادة التيار الانفصالي أنفسهم عن التوقعات، رغم كل خطاباتهم التي تدعو إلى التعاون، بل تطلب علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي. غير أن الأمور لا تمضي بالتمنيات، ولا سيما أنهم حصلوا بالفعل على تنازلات أوروبية كبيرة بقدرة كاميرون قبل الاستفتاء. ولا ينفع تباكيهم المتكلف على رحيل ديفيد كاميرون. الآن دخلت بريطانيا مرحلة عدم الوضوح حول مصيرها. فالأمر لم يعد مرتبطا بعضوية في اتحاد أوروبي، بل بتماسك كتلة المملكة المتحدة نفسها، وهذه الكتلة أخذت شكلها النهائي وفق الروابط الأوروبية أيضا. سيدخل ديفيد كاميرون التاريخ واحدا من أصدق السياسيين البريطانيين الذين حكموا البلاد، لكنه سيدخله أيضا كقائد انفصالي، على الرغم من أنه قاتل حقا ضد الانفصال بكل ما لديه من أسلحة سياسية، بل وضع مستقبله السياسي بين أيدي شعب منقسم تماما.
إنشرها