Author

«خميس» الخروج أو البقاء

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي له نتائج سامة" ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا بعد غد، تصوت بريطانيا على مصيرها الأوروبي. وهذا التاريخ ليس محليا بل عالميا أيضا، وهو محوري بالنسبة لشركاء المملكة المتحدة الأوروبيين وغيرهم، بل هو كذلك حتى لأولئك الذين لا تجمعهم مع لندن روابط مشتركة عالية القيمة والمستوى. والسبب معروف للجميع، وهو أن بريطانيا ليست بلدا هامشيا. ورغم عدم تملكها مفاتيح صناعة القرار العالمي، إلا أن "منتج" هذه الصناعة لن يكون ذا جودة حاضرة، بغياب المشاركة البريطانية. والأمر نفسه ينطبق على البلدان ذات التكوين المشابه سواء من ناحية تاريخية أو من جهة الحاضر. ولهذه الأسباب وغيرها، استجدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما الناخبين البريطانيين ليصوتوا من أجل البقاء. وكذلك فعل قادة البلدان الأوروبية التي عادت لا تستسيغ المعاملة الخاصة للمملكة المتحدة ضمن أطر الاتحاد الأوروبي. المهم بالنسبة للجميع بقاء البلاد تحت علم الاتحاد. و"الجميع" هنا، لا علاقة لهم بجميع معسكر الخروج داخل بريطانيا. فهؤلاء أثبتوا أن حضورهم قوي بل ومواز لحضور معسكر البقاء. والأهم من هذا كله، أنهم ساعدوا في تكريس حقيقة أن للقومية العمياء ساحتها الواسعة في بريطانيا، رغم أن هذه الأخيرة تعتبر (مقارنة بمثيلاتها في الغرب) الأكثر تسامحا وانفتاحا وحتى "تواضعا". ومن هنا ليس غريبا أن يخشى الأوروبيون الحريصون على بقاء بريطانيا في الاتحاد، من أن يكون الخروج المشار إليه مقدمة لتخارجات مشابهة من جانب بلدان أوروبية أخرى. بعض السياسيين لم يتردد في وصف الانسحاب البريطاني المحتمل بـ "الدومينو". والأمر المثير حقا، أن الشعور السلبي تجاه الاتحاد الأوروبي، له ساحاته في بلدان أوروبا الشرقية التي استماتت في السابق للانضمام إلى الاتحاد، والتي تستفيد أكثر من غيرها منه. إنها القومية المتخلفة، أو المظلمة، أو العمياء، وهي في النهاية ظالمة لكثير من الحقائق، ومعطلة لحراك التقدم الذي تحتاج إليه كل بلدان الاتحاد الأوروبي، ولاسيما تلك التي تعاني قبل الأزمة الاقتصادية العالمية وبعدها أزمات اقتصادية محلية كبيرة. حقيقية النظرة القومية "ولا أقول الوطنية" برزت بأبشع صورها داخل عمق المجتمع البريطاني، عندما أقدم منحرف الأسبوع الماضي على قتل النائبة العمالية جو كوكس في دائرتها الانتخابية، لا لشيء إلا لأنها تطالب "كغيرها من السياسيين" ببقاء بلادها ضمن الاتحاد الأوروبي. والحقيقة البشعة تجلت أيضا في صياح هذا المجرم أمام قاضي المحكمة "إنها خائنة" وتابع بصوت أكثر بشاعة "خانت بريطانيا"! ورغم قبح الجريمة، إلا أن معسكر المؤيدين للبقاء بدأوا يستغلونها للتأكيد بصورة مباشرة على أن المجرمين يقبعون في معسكر الخروج. وبصرف النظر عما إذا كان هذا المجرم من هذا المعسكر أم لا، فالجريمة أفادت بلا شك من يريد البقاء في الاتحاد. استنفد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون كل شيء من أجل دفع الناخب البريطاني للتصويت بالبقاء. فالانقسام بين المعسكرين مخيف من حيث تقارب القوة بل توازيها. وهذا الانقسام تجلى حتى في المؤسسة الصحافية الواحدة. فجريدة "التايمز" اليومية أيدت البقاء، وشقيقتها "صنداي تايمز" الأسبوعية دعت قراءها للتصويت لمصلحة الانسحاب! الشخصية البريطانية تعاني الانفصام حيال هذا الأمر، وهو أمر فيه من المخاطر من أوله إلى آخره، ولا به جزء بسيط من المحاسن. والانفصام هنا في مسألة مصيرية، لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى الاختلاف. لم يوفر مؤيدو البقاء أي حجة إلا وطروحها على مدى أشهر. ولم ينقصهم إلا أن يعلنوا رسميا، أن انسحاب بريطانيا سيسهم في انتشار الكوليرا حول العالم! وكذلك الأمر بالنسبة للداعين للخروج، لا ينقصهم إلا أن يؤكدوا أن بقاء بريطانيا يعني غرق الجزيرة البريطانية في بحر المانش بمعدل 50 كيلومترا كل عام! دعوات قادة أوروبا للبقاء ليست مهمة على الساحة المحلية، ولا حتى رؤساء المؤسسات المالية الدولية ومديري الشركات العالمية الكبرى. واغتيال نائبة على يد متطرف يكره أوروبا، أهم من كل التصريحات التي ظهرت حول العالم بما فيها تلك التي صدرت عن باراك أوباما وغيره من القادة. الحقيقة الثابتة أن كل شيء سيهبط إذا ما خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون أن تكون لها فرصة أخرى للعودة. والتصويت يوم (الخميس)، لن يحسم موضوع البقاء والخروج، بل سيحسم مصير رئيس الوزراء البريطاني نفسه إذا ما قرر البريطانيون الخروج، وسيؤدي ذلك إلى قيادة جديدة لحزب المحافظين الحاكم أقرب إلى اليمين. وهذا أيضا مخيف في زمن يحتاج إلى قيادات ومؤسسات سياسية متوازنة تضع حدودا واضحة أمام التطرف السياسي. ومع ما تبقى من الساعات للاستفتاء التاريخي، البعض يقول إن الملكة إليزابيث الثانية قد تكون "كلمة السر" بالنسبة لمعسكر المؤيدين لبقاء بلادهم ضمن الاتحاد، بل يقول بعضهم هذه الكلمة قد تقلب الطاولة. ولكن مهلا، هل يمكن للملكة أن تتحدث بصراحة وعلانية عن رغباتها السياسية؟ الجواب بالتأكيد هو لا، ولا كبيرة. إلا إذا استطاعت المناورة في عبارات لا يمسكها أحد.
إنشرها