Author

«رؤية 2030» .. وتقليص الفجوة التنموية

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
تتشكل "الفجوة التنموية" من المسافة الواقعة بين الإمكانات والقدرات والموارد المتاحة لدى الاقتصاد من جانب، ومن جانب آخر الاحتياجات والتطلعات الحياتية لعموم أفراد المجتمع، ذلك باختصار شديد ما يعنيه مفهوم "الفجوة التنموية". وعليه؛ كلما اتسعت تلك الفجوة عنى ذلك حدوث قصور في أداء الأجهزة المعنية بتسخير وتوظيف الإمكانات والموارد المتاحة لأجل تلبية الاحتياج والطلب التنموي في الجانب الآخر. من صور هذه "الفجوة التنموية" أن يحدث نقصا في توفير الأسرة الطبية أو العلاج أو الدواء حال بحث المرضى عنها، ومنها أيضا أن يواجه المرء صعوبة في إنهاء معاملاته الحكومية، بدءا من الفرد العادي مرورا بالمستثمر وانتهاء بالشركات والمؤسسات، لتستغرق زمنا أطول مما يستحقه الزمن اللازم لإنهائها، ويمكن قياس الكثير من المعاملات في هذا الشأن على هذه الصورة، التي يكون طرفها الأول الثابت الحكومة ممثلا في أحد أجهزته التنفيذية، وتتعدد أنواع الطرف الثاني من العلاقة تلك حسب نوع وماهية المعاملة المراد إنجازها. وقس على ذلك الكثير من الصور الأخرى التي لا حصر لها فيما يختص بالفجوة التنموية، في مجالات التعليم والتدريب والتوظيف والسكن وتحسين مستوى المعيشة والدخل وتحسين مستوى الخدمات العامة، وسلسلة لا تنتهي الأمثلة عليها، لا يتجاوز ما تم ذكره أعلاه حدود فكرة "على سبيل المثال لا الحصر". تتفاقم خطورة اتساع "الفجوة التنموية" بصورة أكبر، إذا امتد بها الزمن فترة أطول دون أية معالجات وإصلاحات جذرية للأسباب الكامنة خلفها، لتبتلع الأخضر واليابس في طور اتساعها، مخلفة وراءها آثارا سلبية لا يمكن في هذه المساحة القصيرة حصرها، إلا أن من أبرزها الارتفاع الكبير لتكلفة فاتورة الهدر اقتصاديا وماليا وتنمويا، وتعثر تنفيذ المشاريع الحيوية، وانتشار أشكال الفساد المالي والإداري والتكسب غير المشروع، وتزايد التباين بين مستويات الدخل لدى أفراد المجتمع، بتركز الثروات الطائلة لدى شرائح ضيقة من الأفراد، مقابل تآكلها لدى أغلبية الأفراد الآخرين، وسيطرة الأنشطة الاحتكارية في الأسواق المحلية، إضافة إلى انتشار أشكال اقتصاديات الظل كالتستر التجاري وسيطرة العمالة الوافدة على أجزاء كبيرة من الأسواق المحلية، وما يفضي إليه ذلك من ارتفاع كعب الغش التجاري، والتحكم والتلاعب بالأسعار، مقترنا كل ذلك بانخفاض جودة الخدمات والسلع والمنتجات، وغيض من فيض لا مجال لحصره هنا من الآثار السلبية العديدة والواسعة. خلاصة القول عنها في هذا المقام، إنها الآثار الوخيمة التي لا تفضي إلا إلى تثبيط الإنتاجية والتنافسية في الاقتصاد الوطني، وتكريس التشوهات الهيكلية في مختلف الأنشطة الاقتصادية باختلاف أنواعها، وفي الوقت ذاته إلى تقليص جودة الحياة لعموم أفراد المجتمع، وإلى تحجيم وإضعاف خياراتهم الحياتية والمستقبلية، تتحول معه حياة الفرد من البحث عن تحسين جودة حياته، وتحقيق الإنجاز والتفوق، إلى استماتته في دفع الآثار السلبية عن حياته قدر الإمكان، والانخراط في دوامة معيشية لا نهاية لها من المتاعب والضغوط المادية والنفسية والاجتماعية. ليست مبالغة على الإطلاق، أن "رؤية المملكة العربية السعودية 2030" وما تحمله من برامج تنموية وتطويرية محددة المهام والوظائف والأهداف، والآلية التي اتخذتها منهجا لها للوفاء بمتطلباتها، ولترجمتها عمليا على أرض الواقع، أؤكد أنه ليس مبالغة أن نبدأ في مواجهة تحديات ردم "الفجوة التنموية" الراهنة بهذه المنهجية، ممثلة في "الرؤية 2030" وما تضمنته من برامج ومبادرات، وهو ما سبق الحديث والكتابة عنه طوال العقد الماضي، أن نقطة الانطلاق الجادة لمواجهة تحدياتنا التنموية، ومنحنا القدرة الأكبر للوصول إلى تحقيق تطلعاتنا، واقتناص فرص النمو والتفوق والتقدم، مرهونة بتبنينا لمنهجية عمل متكاملة، تقوم على ثلاث ركائز رئيسة: الركيزة الأولى- رسم رؤية شاملة لمستقبل الاقتصاد الوطني (فريق استشاري مؤهل مستقل). الركيزة الثانية - رسم السياسات الاقتصادية، التي تلتزم تماما بالمحاور التفصيلية لتلك الرؤية الشاملة، والعمل على تنفيذها وفق برامج أداء سنوية ونصف سنوية (الأجهزة الحكومية المعنية). الركيزة الثالثة - متابعة الأداء والتنفيذ، والرقابة، والمحاسبة، وإعداد التقارير الدورية (نصف سنوية، سنوية)، ورفعها من قبل (فريق رقابي مستقل) إلى أعلى جهة في جهاز الدولة. كل هذا أصبح واقعا على الأرض، وهو ما يتم العمل في المرحلة الراهنة على تنفيذه حرفيا، ويؤمل بحول الله وتوفيقه أن تترجم تلك الجهود إلى إنجازات حقيقية وفعلية، تتدفق فوائدها على عموم أفراد المجتمع، وعلى المؤسسات والكيانات كافة، نشهد معها تقلصا ملموسا وفعليا "للفجوة التنموية"، تمهيدا للانتقال من مرحلتها الزمنية المتوقع امتدادها إلى عقد زمني أو عقد ونصف مستقبلا، لنخوض بعد الانتهاء منها تجربة أخرى مختلفة تماما، نتمنى جميعا أن تتوج بالسعي والبحث في استثمار "ثروتنا التنموية"، عوضا عن مجرد مواجهة آثار "الفجوة التنموية" كما هو قائم في الوقت الراهن. والله ولي التوفيق.
إنشرها