Author

أول امتحان لوزارة الإسكان

|
عوامل الإنتاج الأساسية التي تعتمد عليها البشرية في توفير احتياجاتها هي "الأرض واليد العاملة ورأس المال"، ومن المسلم به في الاقتصاد العقاري أن قيمة الأرض هي ما يتبقى من قيمة المنشأة بعد خصم تكاليف اليد العاملة ورأس المال للأصل الذي سيتم إنشاؤه على الأرض، لذلك لا قيمة حقيقية للأرض ما لم يكن عليها ما يستفيد منه البشر من مسكن أو مصنع أو غيره من المنشآت التي تضيف قيمة اقتصادية من إنتاج للاحتياجات وتوظيف لليد العاملة، وغيرها من الفوائد التي لا يتسع المقام لذكرها، وحاليا نحن في صدد تغيير ثقافة تنظر إلى الأرض كسلعة متداولة، وهذه الثقافة ليست محلية بل هي نموذج اتبعه كثير من الأمم حول العالم، كوسيلة لاكتناز الأموال وتنمية الثروات، حيث كانت نصيحة أول مليونير في تاريخ أمريكا في القرن الثامن عشر جوان أسترو "اشترِ الأراضي في الأطراف وانتظر"، ولكن لم يقتصر الأمر على شراء الأراضي في الأطراف فقط بل امتدت المضاربة بها واكتنازها إلى وسط المدن، لتؤثر هذه الممارسات في التنمية وتضيق على الأغلبية المنتجة من الناس، وذلك بارتفاع أسعار الأراضي الذي أدى إلى ارتفاع تكلفة الوحدات السكنية. لذا يأتي دور الحكومات لتحقيق التوازن بين مصالح الأغلبية المنتجة من الشعب ومصالح المتاجرين بالأراضي، فحين يصل الخلل إلى تعاظم ثروة فئة معينة على حساب فئة أخرى، فهنا لا بد من التدخل ووضع الأطر التي تحمي كل الأطراف وتحقق المصلحة العامة وتؤثرها على المصلحة الخاصة، ولذلك ظهرت أنظمة متعددة من ضمنها رسوم الأراضي البيضاء، التي هي في الأساس موجهة إلى حماية المصلحة العامة وتشجيع المستثمر على التعامل مع الأرض كعنصر إنتاج وليس كسلعة لاكتناز الثروة وتنميتها والتضييق بذلك على المطورين المحترفين وكذلك المواطنين الراغبين في السكن، لذا يمكن قياس جودة النظام ولائحته التنفيذية وتطبيقاته على المدى البعيد بمدى تغير هذا العرف الثقافي السائد، وللعلم فإن كل المختصين والمهتمين يقرون بأهمية الرسوم كجزء من الحل، لكن ما يخشاه المؤيدون والمعارضون على حد سواء أن يعطل النظام من خلال لائحة تنفيذية وطريقة تطبيق تؤخر تحقيق الأهداف، ليزداد تشوه السوق وتمتد فترة الارتباك إلى جميع المتعاملين فيها، وتتعاظم الإشكاليات التي من أهمها مثلا انتقال الاكتناز من الأراضي الخام الكبيرة إلى الأراضي الصغيرة والبلكات داخل المدن. صدرت موافقة مجلس الوزراء على نظام الرسوم بعد خمسة أشهر تقريبا من تعيين وزير الإسكان الحالي ماجد الحقيل، لذا فإن هذا النظام المهم يعد أول امتحان حقيقي لوزير الإسكان وفريقه الذي يعمل معه، لأنه سيحل جزءا أساسيا من أزمة السكن ليس للوقت الحاضر فقط بل لمستقبل الأجيال، وهو تغيير ثقافة متجذرة مبدؤها اعتبار الأرض سلعة للمتاجرة. ومن المهم الإشارة إلى أن نظام رسوم الأراضي البيضاء هو حل من حزمة حلول كثيرة، لكنه حل سريع التأثير وغير مكلف، وهنا تظهر أهميته "في حال صدور آلية تنفيذ محكمة وطبقت على أرض الواقع بكفاءة وشفافية عالية" بأنه مشروع لا يمكن أن يخسر، فتكاليفه المتمثلة في المصاريف الإدارية والتشغيلية لا تكاد تذكر مقابل عوائده الضخمة التي ستصب في حساب وزارة الإسكان للعمل على حلول التطوير والتمويل، فأموال الرسوم لن تخرج من سوق العقار السكني، إنما سيعاد ضخها فيه بطريقة نافعة ليستخدمها المطور الجاد والمواطن، وفي حال صدرت اللائحة التنفيذية بصيغة محكمة فمن الممكن أن تتحقق أهداف النظام في مدة زمنية قصيرة، بل يلمس أثرها من أول يوم تعلن فيه اللائحة، لذا من المهم أن تضيق دائرة الاستثناءات، وألا تتضمن تطبيقا مرحليا بفترات متباعدة تعتمد على المساحات، وإنما من الممكن أن تعتمد على المدينة وحاجتها، فتبدأ بالمدن الأكثر تأزما والأغلى سعراً، ومن المهم الحرص على الشفافية في التطبيق بحيث يتسنى للجميع معرفة مدى كفاءة التطبيق، وبالطبع فإن أول مؤشر لنجاح اللائحة التنفيذية وتطبيقها الذي يمكن أن يقاس من الجميع هو مدى تأثر أسعار الأراضي في السوق، ولتعزيز الشفافية من الضروري إنشاء قاعدة بيانات للأراضي التي تطبق عليها الرسوم وتوضيح بخريطة تفاعلية تحدّث دوريا، وهذا الإجراء معمول به في بعض الدول، حيث يمكن معرفة القيمة المقدرة للعقار والرسوم السنوية من خلال موقع إلكتروني لهذا الغرض من خلال رقم السجل العقاري، وفي الحالة السعودية يمكن استخدام رقم الصك إضافة إلى خريطة تفاعلية توضح مواقع الأراضي التي تم فرض الرسوم عليها في كل مدينة، وبذلك سيتم ضبط إجراءات التطبيق من خلال رقابة داخلية وخارجية. الخلاصة، عوامل النجاح بل والتفوق في أول امتحان لوزارة الإسكان متوافرة، ويمكن أن تكون خطوة مهمة للاستفادة من حزمة الحلول الأخرى، وبداية لتغيير ثقافة الاستثمار في سوق العقار السكني بالذات للتحول إلى التطوير والتنمية المستدامة، لذلك إن ضيعت "الإسكان" هذه الفرصة فهي لما سواها أضيع.
إنشرها