Author

للإنجليز «شكسبيرهم» وللعرب ...

|
أستاذ جامعي ـ السويد
يحتفل الإنجليز ومعهم كل حامل للثقافة الأنجلو ــ ساكسونية بمرور 400 عام على ولادة شكسبير، الذي يعد أبرز كاتب مسرحي وشاعر أنجبته بريطانيا. لن أزيد خردلة لو خصصت هذا العمود لشكسبير. فهو كاتب غني عن التعريف. تأثيره لا حد له في الثقافة الأنجلو ــ ساكسونية وصيته يطير في الآفاق. بيد إنني قد أسهم بحبة خردل في تنوير قراء لغة الضاد إن تحدثت عن لماذا وكيف يحتفي الإنجليز بكاتبهم الكبير وقارنا ذلك وقاربناه بالطريقة التي يحتفي بها العرب بأعلامهم. يخطئ من يقول إن العالم الغربي لا يكترث لتراثه وفنونه وكتابه وشعرائه ولغته. ويخطئ من يقول إن العالم الغربي قد استحوذت عليه الماديات وتكنولوجيا المعلومات ويهمش لغته وأعلامها وفنونها وموسيقاها وآدابها. من خلال تجربتي، أرى أنه كلما زاد رقي وتمدن وتطور الغرب، زاد تشبثه بلغته وتراثه وآدابه وفنونه. الغرب ينظر إلى اللغة الوطنية وكأنها الوجود لا بل الكينونة. فيها يرى نفسه وتاريخه وآدابه وأعلامه وفنونه. الشعوب الحية ترفض الاحتلال لا سيما الاحتلال اللغوي (الثقافي). الاحتلال اللغوي أبشع أنواع الاستعمار. الاحتلال اللغوي خطير جدا لأنه يلغي الثقافة والفنون والآداب. الاحتلال اللغوي يوجد هوية ووجودا وكينونة جديدة تزيح الثقافة الوطنية الأصيلة. ومن هنا تأكيدنا في هذا العمود على لغة الضاد. تهميشها وتبديلها إن في المدرسة أو الإعلام أو غيره احتلال واستعمار له تبعات كارثية على الكينونة والوجود والحاضر والمستقبل والتاريخ. الغربيون بارعون في الحفاظ على لغتهم وأعلامها. واللغة كما قلت مرارا في هذا العمود هي الخطاب. والخطاب هو كل رمز نستعين به للتواصل. اللغة عمود التواصل بشتى أشكاله. والفنون والثقافة والآداب والشعر كلها تقع ضمن إطار الخطاب. والتواصل يبدع فيه الغربيون. لا يتركون أي فرصة من التاريخ المؤثر في صيرورة أممهم أن تمر مرور الكرام. كل ذكرى لرمز وطني، لا سيما المبدعون في اللغة والآداب والشعر والفنون، يتبارون في إحيائها بشكل مكثف وتقديم تغطية إعلامية شاملة لها وكأن الرمز هذا يعيش بينهم رغم مرور مئات السنين على وفاته. في عام 2006 كنت في النمسا. وصادفت زيارتي مرور 250 سنة على ولادة موزارت. كان موزارت حيا في كل مكان في النمسا، في الأزقة والشوارع والمقاهي ومحطات القطار ووسائط النقل. ليس هذا فقط. كان موزارت وموسيقاه تصدح من كل مكان في النمسا. أينما ذهبت كنت ترى ملصقا له مع شرح موجز عن حياته. وشارك الألمان النمسا احتفالاتها لأن البلدين يشتركان في هوية ثقافية واحدة تجسدها اللغة الألمانية. وفي المدارس كان التلاميذ يقرأون عن موزارت في كراريس وكتب أعدت وألفت بمناسبة ذكرى ميلاده. ولن نكون منصفين لو قلنا إن الاهتمام بالأعلام يحدث فقط في مناسبات مهمة مثل تاريخ الوفاة أو الولادة. الغربيون مشهود لهم بإحياء أعلامهم بطرق شتى. مثلا تقوم المؤسسات الحكومية بطبع مؤلفاتهم ونشرها على أوسع نطاق وبأسعار زهيدة. وللإعلام حصته في أحياء الموروث والتراث من خلال بعث الحياة في مشاهير المؤلفين والكتّاب والمفكرين والفلاسفة. ما يشدني كثيرا في الغرب هو قيام المؤسسات الإعلامية وغيرها بإعادة نشر التراثيات بلغة العصر ـــ لغة سهلة مبسطة كي يتمكن الأطفال من قراءتها وهضمها ومن خلالها توعيتهم بتراث أجدادهم وتاريخهم وهويتهم. وهكذا ينمو الأطفال وهم على معرفة كافية بتاريخهم ورموزهم وأدبهم وشعرهم وفنونهم وثقافتهم. وبريطانيا ربما تبز الآخرين في إعادة الحياة لرموزها. اليوم تعج المكتبات بمؤلفات شكسبير رغم مرور 400 عام على وفاته. هذه المؤلفات تأتي في أشكال وأساليب شتى وتستهدف مختلف شرائح القراء. الأطفال لهم شكسبيرهم. وتلاميذ المدارس لهم شكسبيرهم. وطلبة الجامعات لهم شكسبيرهم، وهكذا الأمر مع جميع شرائح المجتمع بمختلف طبقاتهم الاجتماعية والثقافية. وفي المسرح، حيث لا يزال شكسبير سيد خشبات المسرح في بريطانيا، يتم تقديم شكسبير بأشكال وأساليب شتى تلبي طلبات المتلقين بمختلف مشاربهم. هذا الأمر ينطبق على بقية رواد اللغة والأدب والثقافة والفنون ليس في بريطانيا بل في العالم الغربي برمته. هؤلاء الرواد لهم أيضا متاحفهم ومكتباتهم. إلى هذه الأماكن، تنظم المدارس زيارات خاصة للتلاميذ والطلبة لتعميق تواصلهم مع التاريخ والثقافة واللغة. وهكذا ترى أن المثقف في بريطانيا ـــ الذي أنهى حتى المرحلة المتوسطة من التعليم ـــ له إلمام كبير بتاريخه ورموزه وأعلامه. أقول هذا وفي نفسي حسرة. والحسرة لا بد أن ترافق أي متشبع بالثقافة العربية والإسلامية وهو ينظر إلى حال العرب وكيفية تعاملهم مع اللغة والتراث والفنون. إنه لأمر محزن أن ترى مثلا طلبة الجامعة في بلدان عربية محددة تعرف عن شكسبير وغيره من الأعلام والكتّاب في الغرب ولكنهم لم يسمعوا بما يقابلهم في الثقافة العربية والإسلامية. وكان وقع الأمر عليّ أشد من الصاعقة عند رؤيتي طلابا عربا لم يسمعوا بأبي العلاء المعري وابن خلدون وابن سينا والرازي وابن رشد وابن عربي وابن الطفيل وابن باجة وابن الهيثم وغيرهم من الأعلام الذين تركوا بصمات لا تمحى على مسيرة الحضارة الإنسانية برمتها وليس العربية والإسلامية وحسب.
إنشرها