Author

كينز ووايت..وخطة تأسيس صندوق النقد والبنك الدوليين

|
في صيف عام 1944 وفي شهر تّموز (يوليو) بالتحديد، اجتمع ممثلو أربع وأربعين دولة ليناقشوا فكرة تصميم نظام جديد للنقد العالمي. اللقاء جاء في وقت كانت فيه رحى الحرب العالمية الثانية تدور في أوجها، وتستعر في أماكن مختلفة في كل من أوروبا وآسيا، وكان الحلفاء يحققون تقدما بعد آخر على عدد من الجبهات. الفكرة هي كيف سيتم تنظيم النظام النقدي العالمي الذي سيقود الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد الحرب، وسيمهد لمرحلة من النمو الاقتصادي المستقر والمستدام بعد أن تحقق دول الحلفاء الانتصار على دول المحور التي يمثلها كل من ألمانيا بقيادة هتلر، وإيطاليا بقيادة موسوليني، واليابان التي كانت تتراجع في ظل الخسائر الكبيرة التي واجهتها في جنوب شرق آسيا. والسبب الذي دعا إلى عقد هذا المؤتمر في خضم الحرب العالمية الدائرة هو قناعة المسؤولين في وزارتي الخزانة ووزارة الخارجية الأمريكية بأن عدم قدرة الدول الكبرى على تأسيس نظام اقتصادي عالمي قائم على التعاون بين الدول العظمى لتأسيس مرحلة جديدة من السلام والانتعاش الاقتصادي في أعقاب الحرب العالمية الأولى هو السبب الذي أدى إلى اندلاع الحرب مرة أخرى. ولذلك كانوا أكثر إصرارا على تأسيس نظام نقدي جديد، أطلق عليه المستشار في وزارة الخزانة الأمريكية هاري ديكستر وايت (اتفاق جديد لعالم جديد)، وذلك لتأسيس مرحلة تحقق السلام والتعاون الاقتصادي بعد الحرب، ويكون النظام النقدي العالمي هو أحد المكونات الرئيسة لهذا السلام العالمي. وفي الوقت نفسه كان لدى المسؤولين الأمريكيين قناعة بأهمية أسبقية الولايات المتحدة في تصميم ورعاية هذا النظام النقدي العالمي بما يسهم في تعزيز تفوق الولايات المتحدة السياسي والاقتصادي على حد سواء. نتيجة هذا المؤتمر تأسيس مؤسستين ماليتين دوليتين – هما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير (الذي تحول فيما بعد إلى مجموعة البنك الدولي) – واللتين تقومان حاليا بمهام رئيسة في إدارة دفة الاقتصاد العالمي. فصندوق النقد الدولي معني باستقرار النظام النقدي الدولي إضافة إلى سياسات الاقتصاد الكلي والقطاع المالي المؤثرة على الاستقرار العالمي. ويقوم الصندوق بتحقيق هذا الهدف من خلال تأدية ثلاث وظائف رئيسة: الرقابة على اقتصاديات الدول الأعضاء فيه، والمساعدة المالية للدول التي تعاني مشاكل في ميزان المدفوعات، والمساعدة الفنية للدول الأعضاء. في حين يعمل البنك الدولي على تشجيع التنمية الاقتصادية طويلة الأجل والحد من الفقر من خلال توفير الدعم الفني والمالي لمساعدة البلدان الأعضاء في إصلاح قطاعات معينة أو تنفيذ مشروعات استثمارية محددة. وتحصل المؤسستان على مواردهما من مساهمات الدول الأعضاء من خلال الحصص، أو من خلال الاقتراض من الدول الأعضاء ذات الأوضاع المالية الجيدة. ومن خلال هذه المهام تسهم هاتان المؤسستان في وضع الأطر التنظيمية التي تنظم العلاقات الاقتصادية بين الدول بحيث لا يكون هناك تنافس يؤدي إلى تضارب في هذه السياسات، وتفاوت كبير في المصالح. وبمعنى آخر، فإن صندوق النقد والبنك الدوليين يعملان على وضع المصالح والمنافع الاقتصادية للدول في إطار مشترك يحقق الفائدة للجميع، وكذلك يقسم المسؤوليات حسب الإمكانات الاقتصادية للدول. وهذا يتم من خلال إطار للتفاهم والتفاوض بين الدول الأعضاء في المؤسستين في إطار مجالس الإدارة التي تمثل فيها جميع الدول الأعضاء، وتسهم في اتخاذ القرارات اليومية لهما. كذلك تلعب هاتان المؤسستان دورا مهما في لفت الانتباه إلى المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي، واقتراح السياسات اللازمة للتعامل معها. وقد نبعت فكرة تأسيس هاتين المؤسستين من خلال خطة وضعها الاقتصادي المعروف جون ماينارد كينز حينما كان مستشارا للحكومة البريطانية التي كانت تعاني تراكم ديون الحرب عليها وتحتاج إلى تمويل من الولايات المتحدة لمساعدتها على مواجهة متطلبات الحرب، والمستشار هاري ديكستر وايت الذي كان يعمل مستشارا في وزارة الخزانة الأمريكية. كينز ووايت اعتقدا أن هناك حاجة إلى وضع عملية التمويل الدولي – وخصوصا الإقراض للدول – تحت إطار تتحكم فيه الدول وليس المؤسسات المالية التي يملكها القطاع الخاص. ولذلك قدم كل منهما خطة لتأسيس نظام نقدي جديد تقوم فيه المؤسسة الجديدة – فيما بعد أصبحت صندوق النقد الدولي – بدور رئيس في عملية تمويل عجوزات المدفوعات للدول. ودون الدخول في تفاصيل التفاوض التي تمت كان بطلاها كينز ووايت، فقد أثمرت هذه الجهود عن تأسيس صندوق النقد الدولي ليكون له دور مركزي في تنظيم النظام النقدي العالمي. وهناك جدل كبير في أوساط المهتمين بصندوق النقد والبنك الدوليين حول هاتين المؤسستين – خصوصا صندوق النقد الدولي للتأثير الكبير لسياسته على الدول - من حيث سيطرة الدول المتقدمة وبالتحديد الولايات المتحدة والدول الأوروبية على قرارات هاتين المؤسستين، حيث تمثل القوة التصويتية لها ما يقارب الـ50 في المائة. ما يعني أن السياسات التي تتبناها أجهزة القرار في الصندوق والبنك تمثل بشكل أكبر مصالح هذه الدول بالدرجة الأولى. وهذا ظهر جليا في تجارب كثيرة لتعامل صندوق النقد الدولي مع سياسات أسعار الصرف وحركة رؤوس الأموال وسياسة مشروطية القروض التي تقدمها المؤسستان. لكن الكل يجمع أن هذه النظرة تغيرت كثيراً خلال العقد الأخير عندما أصبح صندوق النقد والبنك الدوليين أكثر اهتماما ومراعاة لمصالح الدول النامية والاقتصادات الصاعدة بالنظر إلى تزايد دورها وتأثيرها في الاقتصاد العالمي. وكالعادة فإنه خلال الأزمات يبرز دور صندوق النقد الدولي بشكل أكبر ويصبح تحت الأضواء، وهذا ظهر جلياً في التعامل مع الأزمة المالية العالمية التي ضربت الاقتصاد العالمي في عام 2008حيث أسهم الصندوق خلال هذه الأزمة في تمويل كثير من الدول التي عانت تبعاتها، إضافة إلى دعم دور مجموعة العشرين للتوصل إلى تحرك مشترك من أهم الاقتصادات وأكثرها تأثيرا في العالم بتقديم المشورة لأفضل الطرق للتعامل مع الأزمة والحد من انتشارها. على سبيل المثال، قدم الصندوق فكرة تأسيس خطوط ائتمان للدول التي تتمتع بسياسات اقتصادية جيدة ولكنها تعاني تداعيات الأزمة عليها، كالمكسيك وبولندا وكولومبيا، بحيث توفر ضمانة تلجأ إليها عندما تزيد الضغوط المالية الخارجية. إضافة إلى ذلك، أسهم الصندوق في دعم دول منطقة اليورو جراء تداعيات الأزمة في اليونان والبرتغال وإيرلندا وقبرص. وهذا الأخير أدى إلى انتقادات كبيرة لدور الصندوق في منطقة اليورو الذي كان محكوما برؤية وتوجهات الدول الرئيسة في المنطقة كألمانيا بالنظر إلى أن المساهمة المالية للصندوق أقل بكثير مما قدمته دول منطقة اليورو، ما أثار تساؤلات كثيرة في أوساط المهتمين حول قدرة الصندوق على تقديم رأي أكثر استقلالا وممثلا للدول الأعضاء فيه. التحدي الأكبر بالنسبة لصندوق النقد الدولي وكذلك البنك الدولي هو استمرار المرجعية أو الأهمية بالنسبة لهاتين المؤسستين في ظل دخول لاعبين جدد في مجال التمويل الدولي الرسمي، ما يشكل منافسة لدور هذه المؤسسات، ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأنها يمكن أن تحل مكانها. ومن هذه المؤسسات تدابير التمويل الإقليمية الناشئة كآلية الاستقرار الأوروبية ESM ، وبنك البريكس، وعدد من التدابير الائتمانية الإقليمية الأخرى. وكذلك بروز دور منافس أيضا لصندوق النقد الدولي من خلال خطوط الائتمان التي تقدمها البنوك المركزية، وتأسيس صندوق طريق الحرير والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي يعتقد البعض أنه سيشكل منافسا كبيرا لدور البنك الدولي في هذا المجال. لكن ما يميز هاتين المؤسستين – صندوق النقد والبنك الدوليين – هو العضوية الشاملة لأغلب دول العالم تقريبا فيها، ما يعطيها دورا متميزا في وضع السياسات التي تتبعها الدول على المستوى الدولي كتلك المتعلقة بسياسات سعر الصرف، أو المتعلقة بتدفقات رأس المال، أو السياسات والممارسات المتعلقة بالاستثمار. لذلك، لن يكون لهذه المؤسسات الجديدة دور منافس لصندوق النقد والبنك الدوليين في هذا المجال. أما في مجال التمويل، فإنها ستشكل منافسا إلى الحد الذي يقلل من دور صندوق النقد والبنك الدوليين في رسم السياسات المرتبطة بعمليات التمويل. لكن حتى الدول التي تسهم في هذه المؤسسات الناشئة وترعى تأسيسها، فإنها حريصة على وجود الصندوق والبنك لتمويل العمليات بشكل مشترك نظرا للخبرة التي يمتلكانها في رسم السياسات المرتبطة بالتمويل. لذلك، فإن التحدي الأكبر بالنسبة للصندوق والبنك الدوليين هو كيفية العمل في إطار مشترك مع لاعبين آخرين في مجال التمويل الدولي الرسمي بما يكفل بقاء دورهما المركزي في هذا المجال.
إنشرها